طفح الكيل. فاضت الشوفينية اللبنانيّة إلى الإعلام. هناك من سكب الزيت على النار وأحرق أجانب برج حمود. لكن هؤلاء العمال، والعاملات، كعادتهم، لم يكونوا عدائيين، في مؤتمرهم الصحافي، أمس. أرادوا «توضيح ملابسات الأحداث المؤسفة». باتوا متيقنين من أنها تتسم بعنصريةٍ ضدهم... منهم من رُحّل قسراً، ومنهم من يتعرض لـ«مضايقات يومية» في محيط برج حمود، النبعة، والدورة. كل هذا «بعد تقرير إحدى المحطات اللبنانية». الدور السلبي للتقرير التلفزيوني العنصري وضع أوزاره. ملّ العمال التصريحات التي «تصدر من دون استشارتهم». دافعوا عن كراماتهم. رفضوا اتهامهم بأنهم «مروجو مخدرات وعاملات جنسيات». ومثل هذه الاتهامات السخيفة تكاثرت بعد التقرير الشهير. شددوا على أن الاعتقالات التي تحدث «تعسفية»، لا تخلو من الضرب والإهانة.
أحد رجال الأمن، قبل يومين، صفع عاملة على خدها، مرتين، تحت الجسر في الدورة. ضحك الجميع عليها. ذكّروا «المجتمع» بأنهم هنا للعمل. لم يكونوا مضطرين إلى التذكير. لكن، مجدداً...«ذلك التقرير». وقبل أن يختموا كلمتهم، التي ألقتها مسؤولة الجالية الأفريقية، التي تتحدث العربية بطلاقةٍ بالغة، أجابوا عن بعض الأسئلة، مؤكدين أن «سفاراتهم تتحرك لأجلهم، لكنها لا تعي حجم المشكلة». ناشدوا القوى الأمنية حمايتهم. حتى اللحظة، يحدث العكس. فقد عرض أحد اللاجئين قصصاً له ولزملائه، تبيّن أن الجيش يوقف اللاجئين «بحسب لون بشرتهم».
إذاً، الجيش لا يميّز بين أسود وأسود. يبدو أنه يميّز البيض عن السود. وإذا صح ما يقوله أولئك اللاجئون، فإن ثمة «فصلاً عنصرياً» حقيقياً يمتد على مساحة البلد، وتتجلى أوضح صوره في منطقة برج حمود. الأشخاص المعنيون في المنطقة أبدوا ثقتهم بـ«القوى الأمنية» التي «اعتقلت ألف أجنبي في ليلةٍ واحدة». وفي تلك الثقة، رفع لثقل الفعل «العنصري» عن كاهل «أهل المنطقة» وإلقائه على الجيش «الذي يقوم بالتوقيفات» كما ينقل ناشطو المجتمع المدني المحلي. وفعلاً، ارتفعت أصوات الجاليات الأجنبية، أمس. أحد العمال السودانيين، الذي يملك إقامة شرعية، شبّه طريقة توقيف الجيش لمواطنيه بـ«الحرب». شرح المشهد بصوتٍ خافت، ممسكاً بأوراقه القانونية. أحضر معه تلك الأوراق إلى المؤتمر الصحافي، قابضاً عليها كمن يقبض على قلبه. في أية لحظة يمكن أن «يهجموا عليه». رفعوا السلاح في وجهه سابقاً واتخذوا وضعياتٍ قتالية من دون أن يفهم لماذا يحصل كل ذلك. الرجل يعمل هنا منذ سنوات، متمّماً المعاملات القانونيّة. لكنهم لا يميّزون. يهينون الجميع ثم يسلمونهم لـ«المخافر». بعد ذلك «يفلترهم» الأمن العام. يقسمهم بين عامل شرعي، وآخر انتهت مدة أوراقه. من بينهم لاجئون لا يعترف أحد بلجوئهم ولا تسعفهم أوراق «الأمم المتحدة». ولاحقاً، مع احتمالات حصول أخطاء كثيرة، ينقل كثيرون إلى السجن المركزي في رومية، بانتظار صدور الأحكام. شيء يشبه «الاحتضار الطويل».
معاملة القوى الأمنية المهينة للعمال والعاملات شيء، وردّ الفعل «الشعبي» شيء آخر. ففي برح حمود، رغم أن «الناس طيبون»، أكد الناشط في «حركة مناهضة العنصرية»، علي فخري، أن «تقريراً تلفزيونياً جعل الناس في المنطقة يكتسبون حقاً في طرد الأجانب». ووفقاً لما بيّنته المعطيات في المنطقة، خلال الأسبوع الأخير، فإن التقرير المذكور، رفع مستوى العنصرية بصورة لافتة، إضافة إلى «اضطرار الجيش إلى التدخل». والناشطون ذاتهم، الذين يتحدثون عن «تدخل عسكري»، يوضحون أن «التدخل لم يكن لإنقاذ الأجانب من موجة التحرشات التي تعرضوا لها»، بل على العكس تماماً. طبعاً لا يقصد الناشطون أن الجيش «يستقصد» الأجانب، لكن الجيش هو الجيش. والعسكر لا يتعاملون برفقٍ مع المشاكل عادةً. وهذا ما يفسر طريقة توقيف هؤلاء، التي يصفها الناشطون بالـ«التعسفية».
ربما، يكون الموضوع «عادياً» للبعض، في بيئة تخصّب العنصرية على هامش المشاكل الوجودية الكبرى، في وطنٍ يختلف فيه أبناؤه على هويته الأصليّة. لكن الأمر المؤكد، أن الفوقيّة اللبنانيّة (المقوننة) بلغت حداً لا يطاق. ومثالاً على ذلك، قصة كبير خان. أتى الشاب البنغلادشي إلى لبنان عام 1998. أحب هذا البلد وأحب كل شيء فيه. وبعد حرب تموز، كما يذكر، انتقل للعمل في مطعمٍ شهير في منطقة الحمرا. خلال عمله، تعرف إلى الجمعيات الأهليّة، وساعد مواطنين من جنسيته، وجنسيات آسيوية وأفريقية، لتحسين ظروفهم الاجتماعية. فهم كبير «التركيبة» وتآلف معها، فهناك «لبنانيون طيبون». ومنذ 6 أشهر، أصابته المشاكل التي يساعد زملاءه على حلها. رفض صاحب المطعم الذي يعمل فيه، أي ابن «كفيله» في الوقت عينه، أن يدفع له أتعابه عن الأشهر الستة الماضية، علماً بأن الشاب البنغلادشي كان يعمل نهاراً في المنزل وليلاً في المطعم. هدده صاحب المطعم بوضعه على «القائمة السوداء» لمنعه من دخول البلد الذي أحبه وأتقن لغة أهله، إذ سيرفع عليه «دعوى قضائية بتهمة الهروب والسرقة». يبتزّه بورقة الكفالة التي يكفلها القانون اللبناني، رغم اعتراضات جمعيات المجتمع المدني المستمرة عليها. لا يريد كبير راتب الأشهر الستة، لكنه لا يريد أن يكون في «القائمة السوداء». إقامته شرعية هنا، ويريد البقاء. لكن صاحب المطعم يصرّ عليه لأن يعمل لثلاثة أشهر إضافية، كي يشتري «تذكرة السفر»، ويرحل. وبعد ذلك، يخرج البعض ويصف الحديث عن عنصرية ضد الأجانب بأنه «أمر مبالغ فيه».