بلغ السوريون مرحلة الانقسام السياسي الحاد. مثل لبنان الذي يهواه العرب، صار هناك فئة لا تقبل النقاش بالمطلق، لا تقبل أن يبقى النظام بكل رموزه. وفي مقابلها فئة لا ترى في من يعارض إلا من هم يريدون خراب سوريا وأنهم أتباع الخارج المتآمر على سوريا. وهذا الانقسام يعني أن مخبولاً من يتوقع إصلاحاً بين الإخوة في وقت قريب. فكيف والدماء تملأ المكان، وكذلك صور الضحايا على أنواع انتماءاتهم المختلفة؟ لكن بين المنقسمين من تقع عليه مسؤولية. هو بالتحديد من يتولى أمر القيادة، ومن يتولى صياغة الموقف والخطاب والمبادرات والقرار. وهذا الموجود في القيادة لا يمكنه ادّعاء مطابقة حديث الشارع. سوريا اليوم ليست في برنامج «ما يريده المستمعون». وسوريا اليوم ليست جائزة لمسابقة من يكون صوته الأعلى، سواء كان الصراخ أو الرصاص. لقد أظهرت تجارب الآخرين كلهم، وتجربة ما مرّ من الأزمة السورية، أن بعض الصراخ لهو أقوى بكثير من الرصاص. بين أهل الحكم في سوريا من يقول إن الشارع ضاق ذرعاً بالـ«الزعران والمجرمين»، وأن الناس يطالبون الأسد بأن يلبس ثياب الجيش، ويطالبون الأمن والعسكر بأن يكونوا قساة إلى أبعد الحدود، وأن يفرضوا الهدوء مهما كان الثمن. وبين المعارضين من يقول إن القبول بالحوار، مجرد الحوار، هو الخيانة العظمى، وهو الانتحار بعينه، لأن الناس في الشارع لا يقبلون بأي خطوة تقل عن خطوة رحيل بشار الأسد. هذه اللعبة تعني أمراً واحداً. إن الناس في الشارع هم من يقودون الأزمة. وهذا ما لم يعرفه العالم مطلقاً. حتى الثورات الشعبية المفاجئة بانطلاقتها ونتائجها، كانت لها قيادة. وحتى ردع الانقلابات أو إسقاط المؤامرات، لا يحصل بقرار من رجل الأمن في الشارع ولا من أنصار الحاكم، بل من الذي بيده السلطة والقرار.
ولأن تجربتنا في لبنان، وما جرى وهو مستمر في العراق، وما سوف نكون عليه بصورة أوضح في مصر وتونس وليبيا، تقود إلى نتيجة قاسية أن الانقسام غير قابل للعلاج إلا بتنازلات حقيقية، فإن الذروة التي تعيشها الأزمة السورية، لناحية تولّي الخارج إدارة الملف السياسي والأمني والاقتصادي والإعلامي وحتى في قسم كبير من الشارع، تفيد بأن من الصعب خداع السوريين والقول إن في الأفق القريب ما يشير إلى علاج جدّي لهذا الانقسام. ولأن من هو خارج سوريا يعرف جيداً أن الأمور تسير في الاتجاه الذي يزيد من حفلة الضغط على سوريا داخلياً وخارجياً، وبانتظار أن يخرج عاقل قادر على الضرب بقوة على الطاولة ويفتح الباب أمام حوار متكامل يقود إلى تغيير حقيقي يفيد الشعب السوري لا حكومات ومصالح الآخرين، فإن في الخارج من لا يريد الانتظار، ولا يريد حتى إعطاء فرصة لأحد في سوريا أو خارجها لكي يفكّر في الأمر. وهذا الخارج لا يهتم لأمر أحد بعد اليوم غير مصالحه التي تنحصر يوماً بعد يوم في كلمة واحدة: اعتبار إسقاط أو إضعاف النظام في سوريا مكسباً صافياً للمشروع الأميركي ــــ الإسرائيلي في المنطقة. وهذا الخارج لا يهتم بكل الثرثرات حول حق المواطن السوري في التغيير والإصلاح. هو لا يهتم بهوية الحاكم، ولا طبيعته المدنية أو العسكرية، ولا عقيدته. المهم أن هذا الحاكم لا يمكنه الحكم بمفرده، وأنه يحتاج إلى خارج يدعمه، وإلى خارج يحميه، وإلى خارج يموّله. ويعتقد النافذون في «الشركة الأميركية ـــ الفرنسية ـــ القطرية للثورات» أنهم الخارج الحاضر والمناسب والجاهز لكل هذه الأدوار.
حتى داخل هذه الشركة ثمة توزيع للأدوار بما يليق بكل طرف. أميركا لا تهتم الآن بالصورة الاحتفالية. يكفيها أن تدير الأمور من خلف الستارة، أو أن تحصد النتائج. وفرنسا مصابة بعقدة المستعمر القديم، تعتقد أنها الفرصة المناسبة للعودة إلى المنطقة، ولو وكيلةً للسيد الأميركي. وقطر، التي كان أهلها يحلمون بأن يتعرف الناس إلى مكانها على الخريطة، بات هؤلاء يكتفون بأن يكون المشهد الإعلامي خارجاً من عندهم، وأن تكون الدوحة مقراً لكل الاتصالات واللقاءات، ولو كلّفهم ذلك المليارات. فما يجري هو تجربة مسبقة، ومدفوعة، لاحتفالية يعدّون لها لمناسبة الألعاب الرياضية. أما بقية دول الخليج فليست في حالة تعب من هذه الأدوار. حتى سعود الفيصل الذي لم يكن، ولا يزال، يطيق النظر إلى وجه حمد بن جاسم، لا يهتم الآن بأن احتل الأخير الكادر وحده، ما دامت النتيجة هي ذاتها.
هذا هو الخارج الذي يدير المواجهة ضد الحكم في سوريا. وهذا هو الخارج الذي يتبجّح بنداءات واستغاثات أهل سوريا له. لم يسمع حمد بن جاسم أصوات أهل البحرين وهم يقفون على أبواب الجامعة العربية. كان هؤلاء مندمجين مع شباب المعارضة السورية، وأعلامهم تغطّي على الأعلام السورية واليمنية. لكن، سبحان الله، لم يقدر حمد بن جاسم إلّا على سماع أصوات السوريين، ورؤية الأعلام السورية...
يبدو أن وليد جنبلاط قادر على التأثير في كل محيطنا. وهو نجح على الأرجح، خلال آخر زيارة له لقطر، في نقل مرض الغشاوة إلى حمد بن جاسم. لكن مشكلة جنبلاط أنه اكتشف أن داءه مزمن، وأن غشاوته بنيوية، لا يمكنه التخلص منها غصباً أو حتى بطيبة خاطر.
أعان الله العرب، وخصوصاً قطر، على أنفسهم!