الجنوب المحرّر... «ادخلوها بسلام آمنين»

  • 0
  • ض
  • ض

لم يمنع طقس أيّار المتقلب بالمضي بقرار متأخّر. زيارة المناطق المحرّرة، في الجنوب اللبناني، بعد ست عشر عاماً على تحريرها، أو كما كانت تُعرف قرى الشريط الحدودي. لطالما سمعت بأسماء المناطق والقرى والمواقع. حفظتها، ورسمتها في مخيلتي. لكنني قررت المعاينة عن قرب، للمرّة الأولى.

كانت البداية هنا، من معبر كفر تبنيت. سمعتُ عن إذلال جيش إنطوان لحد للناس، هنا، تحت الشمس الحارقة أو في البرد القارس. إما لاعطاء التصاريح لدخول المنطقة المحتلة، أو لانتظار تنفيذِ موعدٍ معلن لإطلاق سراح أسير أو معتقل.
تدخل المنطقة. تستقبلك لافتة كتب عليها «المنطقة المحررة.. ادخلوها بسلام آمنين». تكرُّ سبحة الذكريات. هنا موقع الدبشة، أحد أهم القلاع المحصنة للجيش الإسرائيلي. استحضر فوراً صورة سيطرة رجال المقاومة عليه. موقع الزفاتة، الذائع الصيت، والذي أمعن باستهداف المدنيين العزّل في قرى وبلدات النبطية، وأقليم التّفاح.
في الطريق صور الشهداء معلقة في كل مكان، وكل زاوية. ثلاثة أجيال من الصور. الأولى تعود لزمن الاحتلال، من سناء محيدلي، إلى أحمد قصير، إلى صلاح غندور، إلى أبي ذر. سحبت شمس الجنوب بعضاً من ألوانها. أما الثانية، فلشهداء حرب تموز. والأخيرة لشهداء الدفاع المقدس، التي لم تخلُ تقريباً أيُّ قرية منهم. محافظة على ألوانها. موثّقة بسماتهم. ليس آخرها صور الشهيد ذوالفقار، الذي حجز مكانه إلى جانب الحاج عماد مغنية. ليكتمل «الكادر هنا».
كُلّما توغّلت أكثر، تختلط عليَّ أسماء مناطق، وقرى كثيرة. بين مرحلة الاحتلال والتحرير، وحرب تموز. لافتةٌ تدلُّ على الخيام. استحضر ما قيل عن السهل، ومجزرة الدبابات في تموز 2006. شدّني الاسم. وإذ بي أرى سهماً معاكساً على اللافتة ذاتها، كفركلا. تفتح عيناي. أقولُ في نفسي «بوابة فاطمة»، من هنا خرجوا. تمنيت أن أقسم نفسي قسمين، كي لا يفوتني شيء.
أختارُ الوجهة الشمالية نحو الخيام. هناك السهل، وخلفه جبل الشيخ، الشاهد على هزيمة إسرائيل عام 2006. أتلفّت يمنناً ويساراً، وأسال من أين دخلوا. أين كانت المقاومة؟ كم دبابة دمرت؟ شعرت بالفخر. في هذه البقعة كُسرت إسرائيل. كسرها أبناء وطني وجلدتي. لا قوات تحالف ولا قوات متعددة الجنسيات، ولا قرارت دولية استطاعت ذلك. كادت دموعي أن تفرَّ من مقلتي.
أكمل باتجاه شاهد آخر، في البقعةِ نفسها. هنا، لم تعد اللافتات زرقاء، بل تحوّلت إلى بنيٍّ فاتح. إنّه معلم سياحي. إنه معتقل الخيام. سألت، نفس معلم سياحي؟ لماذا؟ وأين السياحة في ذلك؟ أمام البوابة الحمراء لذاك المكان، كتب «جيش لبنان الجنوبي». هدوء المكان مرعب. تخيّلت فجاةً أصوات التعذيب، والشمس الحارقة، والهواء البارد في آن. إنها تعقيدات المكان. وقعت عيناي على جُدر حمراء. بقايا قذائف ومخلفات حرب. وراء الجدار رُكامٌ وحطام لم أعرف لمن تعود. صمت المكان مذهل. تستطيع تخيّل كل شيء. تستحضر حكايات من الذاكرة. ومن حسن الحظ، كان هناك أسير سابق، معنيٌّ بالشرح عن عذاباته. يشرح للناس، على مدى ستة عشر عاماً، عن القهر والعذاب. ودائماً كأنها المرة الأولى. يحكي عن التعذيب الذي تعرض له ورفاقه. ستفرّ الدمعة من عينيه. صدمني هول الحديث. صدمة عن المظلومية، والقهر، والإذلال على يد أخوة في الوطن، وعلى يد أبناء البلدة نفسها، خدمة لأسيادهم الإسرائيليين. عمالة لم تخن الوطن فقط، بل أصابت الإنسانية بوصمة عار لن تمحى. يحدّثني أبو علي عن معرفته الشخصية بالعملاء. ينادونه بالاسم. ومن شدّة العذاب يقول له «أعدمني، لم أعد أحتمل العذاب أكثر». ورغم اعتقاله، وفخره بـ«تهمة» الانتساب للمقاومة، في الخيام، إلا أن العملاء، والإسرائيليين، لم ينتزعوا منه أي سرٍّ من أسراراها. يشكر المقاومة التي أبقته في السجن، لأربعة أعوام فقط، حتى التحرير.


سيكون الجنوب
حديث العالم للسنوات
العشرين المقبلة

تشمُّ رائحة الدّم، ولو افتراضياً، في كل زاوية. هنا التعذيب بالكهرباء. هنا الإفرادي. هنا المهاجع الجماعية، التي تفتقد إلى الحد الأدنى من مراعاة الإنسانية. لم تحتمل إسرائيل أن يبقى هذا المكان شاهداً على جريمتها. دمّرته بشكلٍ شبه كامل في حرب تموز. كل هذا كان يُقدّم كقرابين طاعة للسيد الإسرائيلي من قبل جيش لحد.
أترك المكان، وأترك كل البهجة التي تمتعت بها. أفكّر بالمعتقلات والمعتقلين، وسنين عمرهم التي أفنوها فقط لانتمائهم إلى ثقافة ترفض الاحتلال والقهر والإذعان.
أُكمل. لا يخلو شارع من حقبة، أو مرحلة، أو معلم في تاريخ الصراع. هنا مكان تنفيذ عملية الشهيد أبو زينب. «السر المدفون» الذي بقي لسنواتٍ مجهول. أُعلن عنه بعد التحرير. هو الشهيد عامر كلاكش. تنظر يُسرةً، وإذا بالصدمة. إنه الشريط الشائك. مستعمرة المطلّة. معمل التفاح. إنها فلسطين. أنظر في المدى الأخضر. أسال عن هذه البقعة، يأتي الرّد، إنه الجليل.
أقف أغذّي ناظري منه. يستحضرني صدى صوت السيد حسن نصر الله في رأسي، منادياً بـ«السيطرة على الجليل». أراقب المنطقة، كأني خبير عسكري أتقن فن التسلل والسيطرة. أنظرُ إلى المنطقة. أخاطبها من بعيد. أنتِ المفاجأة المقبلة. أنتِ بوابة العبور. أنتِ النصر الآتي. يرتفع منسوب التفاؤل. تمرُّ دورية عسكرية إسرائيلية مؤلّفة من سيارتين مصفحتين. لم أرَ منها إلا على شاشات التلفزة. تمرُّ بمحاذة الشريط الفاصل عن فلسطين المحتلة، بسرعة جنونية. خائفة ممن في الجانب الآخر، الذين يتربّصون صباحهم ومساءهم.
التفت برأسي إلى الجهة اللبنانية. أرى أناساً على الشرفات المطلة على فلسطين، يراقبون النصر القادم من البعيد. هدوءهم رائع. عرفت معنى اللافتة في أول الرحلة. «ادخلوها بسلام». سلامٌ لم يكن ليوجد لولا من أخذ على عاتقه الحماية، وأرسى التوازن.
حدّقت بين الأشجار. في الجبال وفي الوديان. وبين البيوت عليّ أجد أحدهم. لم أوفّق. سألت أحد سكان تلك المنطقة، الواقعة على كتف فلسطين، أين رجال المقاومة؟ لا أثر لهم. أجابني بابتسامة «المقاومة هي أمّة هنا، هي حالة، هي وعي، كلنا مقاومة... كلنا».
السكينة هنا، لن يشعر بها من هم خارج هذه البقعة. سألتهم، ماذا عن الدعوات المستمرة منذ سنين لسحب سلاح المقاومة؟ يبتسم ذاك العجوز، يجيبني، «نحن ما حدا بقرّر عنا، نحن عملنا المقاومة، وما حدا بياخدها منا... نحن بيها وأمها وما رح نقبل تهاجر».
أُكمل المسير إلى بوابة فاطمة، إلى العديسة، والمواجهة مع الجيش اللبناني عام 2010. إلى الطيبة، والنقطة المركزية للوصول إلى نهر الليطاني إبّان حرب تموز. إلى رب ثلاثين تطول الرحلة. حولا، هونين، عيترون، عيناتا، فمارون الراس. هنا حكاية أخرى، في التآخي والتوأمة مع فلسطين.
إلى بنت جبيل، إلى بلدة خالد بزي وصلاح غندور. السوق القديم المُعاد إعماره، إلى البركة، إلى ملعب «بيت العنكبوت» الشهير. هنا سُجّل التحرير بأحرف من ذهب. إلى صفّ الهوا. مشاهدات لا تعد ولا تحصى. إلى أسئلة لم تسعفني ذاكرتي على حفظها كلها. إلى دراسة على شعب صامد، بعيد بضع أمتار لا تتجاوز العشرة عن الشريط الشائك. إلى شعب قُهر، وذُلَّ، وهُجّر، وقاوم، وانتصر. ويعدّ العدّة للأيام الأخرى.
إلى شعب يؤرخ عمره. هي أيام الاحتلال أم بعده. قبل حرب تموز أم بعدها. هكذا تتحول الأعمار هنا، فترتبط بتاريخ المقاومة، لا بأرقام كبقية الناس. في المنطقة المحررة، فاتني الكثير على مدى ستة عشر عاماً. فاتني إباء وعنفوان شعب.
في المنطقة المحررة العميل يبقى عميلاً. يسامحون لكن لا ينسوا. في المنطقة المحررة كل بيت شاهد على سقوط جيش نجمة داوود. 250 كلم مربعاً عادت إلى وطن 10425 كلم مربعاً. لا صدى هنا لما يدور في العاصمة، وعواصم أخرى، عن نزع السلاح وإنهاء المقاومة. لا مكان هنا لأي خائن مستعرب. في هذه البقعة المقاومة بخير. عن هذه البقعة، كما كانت، حديث العالم على مدى عشرين عاماً، ستكون الحديث للسنوات العشرين المقبلة. ومن يدري، قد تُوضع لافتة على بوابة فاطمة موجهة جنوباً... «ادخلوها بسلام آمنين».
* صحافية لبنانية

0 تعليق

التعليقات