لا يعرف الرئيس السابق سعد الحريري الكثير في شؤون السلاح أو الأمن أو لعبة الدم والعصابات المسلحة والميليشيات. وهو ربما لحسن حظه وسوء حظ مواطنيه لم يشهد الحرب الأهلية حتى يعتبر ويتّعظ. هو يشاهد أفلام كرونين وغيرها، ويمارس رياضات خطرة، ولكن بإشراف مدربين دوليين. حسابات الحريري بسيطة، وقد يراها البعض سطحية، الانتظار في الخارج حتى يأتي دوره، كأن الأمر مشاركة في مسرحية عليه أن ينتظر حتى تحين لحظة ظهوره على الخشبة، وقد ينظر إلى صورة والده الذي ظهر في عام 1982 ثم اختفى عن الخشبة حتى عاد مكلّلاً بالسلام والسلطة والمال عام 1992. الغرب والعرب مجمعون على قرار واحد في ما يتعلق بسوريا: حان زمان الحرب الأهلية في بلاد الشام. تنظيم القاعدة سيعلن قريباً مقررات قيادته التي لا تزال سرية إلى اليوم: سوريا أرض للجهاد. النظام السوري لا يرى حلاً غير الحل الأمني. المزيد من تربية الأبناء العاقين، والمزيد من استخدام الجيش للقمع. المتظاهرون باتوا يرون في أي تدخل خشبة خلاص. لم يعد هناك مفرّ من الدفاع عن النفس. وعدنا إلى منطق ساد لبنان في بدايات الحرب الأهلية: فليأت الشيطان ويخلصنا.
كل هذا والحريري ينتظر خارج الحلبة، وهو يبدي تعاطفه مع الشعب السوري، بعد أن فرغ من إحداث أخطر شق في جسم شعبه اللبناني: النزاع المذهبي السنّي ـــ الشيعي الذي لن يلتئم خلال العقد المقبل، وربما لن يلتئم قبل أن يعاود الانفجار مستلهماً ما يحصل في سوريا بصفته تعديلاً في موازين القوى اللبنانية المحلية.
داخلياً يستفيد الحريري ومن يمثل من فريق ومشاركين من مسيرة الحكومة العرجاء التي وضع عليها رهانات أكبر من أن تتحمل أي حكومة في النظام اللبناني. هي مطالبة بتعديلات جدية، بينما هي في شقها الإداري تمثل المصالح نفسها التي كان يمثلها سعد وقبله فؤاد السنيورة وقبلهما رفيق الحريري، وفي شقها السياسي قامت على قاعدة «بدل عن ضائع»، فلم تتمكن المعارضة السابقة من تأليف حكومة بمفردها، فاستعانت بمن أمكن الاستعانة به من فريق 14 آذار، فأقامت حكومة بدل عن ضائع بانتظار تغيّر المناخ السياسي في البلاد لمصلحتها. إلا أن المناخ تغيّر في المنطقة لغير مصلحتها.
وعلى ظهر حكومة متعثرة كهذه يعمل الحريري على الظهور بمظهر الفارس المغوار الذي يدافع عن حقوق اللبنانيين، ولا يتوقف ليلتقط أنفاسه، بل يتابع ليدافع عن حقوق السوريين اللاجئين إلى لبنان، ناسياً ما ارتكبت يداه، بالتضامن والتكافل مع أركان الفريق الآخر، بحق الشعب الفلسطيني في المخيمات منذ 60 عاماً.
لا يكتفي الحريري بتأكيده ووعده بعدم إعادة انتخاب رئيس مجلس النواب نبيه بري، ليعلن بداية مرحلة إعادة البلاد الى نزاع لم تعترف كل الطوائف رسمياً بنهايته؛ ها هو البطرك بشارة الراعي مثلاً يواصل تعداد أعوام الحرب ليعتبرها 36 عاماً، ويعلن الحريري صراحة نيّته إسقاط أحد أهم ما كرسته تسوية النزاع الأهلي، بينما يسخر منه نبيه بري من جهة ليقول إنه مجرد هاو في السياسة، ثم يستدرك بعد أيام مرسلاً مناشدة إلى الملك السعودي للتدخل في الأزمة السورية إيجاباً.
الحريري لا يتوقف هنا، بل يعلن صراحة أن مرشحه لرئاسة الجمهورية ( لعام 2014) هو رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع. وربما كان ذلك أخطر الهفوات التي يقع فيها سعد الحريري.
بعد إعلان مشابه، لا يبقى جعجع رمزاً للتعامل مع الغرب، ولا للرهان على الغرب بوجه بلده وشعبه ومواطنيه، ولا رمز الاقتتال المسيحي ــــ المسيحي، ولا أيقونة المغامرات الخاسرة والتسلح المحبط (بحسب وثائق ويكيليكس التي أكد جعجع صحتها في أكثر من مناسبة). ولا يبقى مجرد متسوّل للسلاح على أبواب السفارة الأميركية لمواجهة المدّ الإيراني السوري المتمثل في حزب الله.
طرح سمير جعجع رئيساً مقبلاً للجمهورية يعني إعادة إحياء مشروع قديم في لبنان، سيعيدنا إلى مرحلة عام 1982، ولا يمكن جعجع الممثل الهامشي لجزء من المسيحيين اليوم، وفي حال نفخه ليكون مرشحاً للرئاسة، إلا أن يمثّل الوارث الشرعي لمشروع لبنان المتحالف مع إسرائيل، ووارث حكم القوات اللبنانية الآتي على ظهر الدبابات الإسرائيلية، وفي لحظة إقليمية مناسبة جداً لمن يريد إحياء أحلام ومشاريع على هذه الدرجة من الخطورة والحساسية. طبعاً ليس من دون أن ينسى أن أمراً مشابهاً سيكلف الكثير من الدماء والدمار.
ولكن سعد الحريري يجهل الكثير في شؤون السلاح أو الأمن أو لعبة الدم والعصابات المسلحة والميليشيات، وهو ربما لحسن حظه وسوء حظ مواطنيه لم يشهد الحرب الأهلية في لبنان حتى يعتبر ويتّعظ. وهو لا يعرف أنه «عندما تسحب مسمار الأمان من القنبلة اليدوية، فإن «السيد القنبلة» يصبح عدوّنا»، ويجب إلقاؤه بعيداً، ولا يجوز بأي شكل من الأشكال ترشيحه لرئاسة الجمهورية.