أنا أو الفوضى! هذا ما قرره سعد الحريري أخيراً. الله أعلم إذا كان الأمر من بنات أفكاره أو جاءه عبر بريد إلكتروني عاجل. لكن المهم في الأمر أن الرجل الذي صرف هو وفريقه السياسي 5 سنوات على صورة رجل الدولة والمؤسسات، واحترام الشرعية الدستورية وغير ذلك، وعلى مهاجمة قطّاع الطرق ومهددي الوحدة الوطنية والسلم الأهلي، هذا الرجل ذاته، قرر أن يتخلى عن ربطة العنق، وأن يستنهض جمهوره على قاعدة أنه عرضة لعملية اغتيال. فإما أن يجري إنقاذه بقتل خصومه، أو أن كارثة ستصيب أهل السنّة في لبنان.
خلال ساعات قليلة، بدا أن كل فريق 14 آذار قد نزع أبشع الأقنعة عن وجهه، وقرر أنه يريد الاحتفاظ بالسلطة بأي ثمن ممكن، ولو أدى ذلك إلى خراب البصرة. وخلال ساعات قليلة، بدا أن كل نشطاء هذا الفريق من القياديين والمؤثرين في مواقع عدة، قد تخلوا عن الياقات البيضاء، وعن الوجوه المرسومة بعناية، وقرروا النزول إلى الشارع. فجأة صار الشارع ملاذهم. هم لا يعرفون مكاناً إلا مقاعد السلطة، وإذا ما تقرر أنهم ليسوا أهلاً لهذه المناصب، تجدهم يبحثون عن أماكن أخرى. فجأة، تعود الطريق الجديدة خزاناً للثوار، وتعود جرود عكار وفقراء طرابلس ومنفيّو الأرياف هم الأبطال الذين تقع على عاتقهم مهمة حماية عائلة قررت أن رئاسة الحكومة ملك لها. وقرر الموظفون العاملون عندها أن رئاسة الحكومة لا تكون لغير آل الحريري، وأن من يجرؤ على المحاولة سيكون ضمن فرقة الاغتيال السياسي، لذلك وجبت تصفيته. هكذا، خلال ساعات قليلة، يتحول نجيب ميقاتي إلى عدو الله الذي يجب أن يختار طريقة للانتحار. إما بالهروب والسفر والابتعاد عن شيء اسمه السرايا الكبيرة، أو القتل على أيدي هؤلاء الذين يعتقدون أن الصراخ هو الحد الفاصل في بناء الدول.
خلال ساعات قليلة، قررت مجموعة من قيادات 14 آذار أن البلاد لا تحتمل أن يحكمها أحد غيرها، وفهمت أن عليها إشعال الأرض وتعطيل الحياة العامة وتهديد الناس بأمنهم وأرزاقهم حتى يتاح للغرب أن يشاهد المذبحة على التلفزيون، فيتدخل لإبقاء ضابط أو قاض في منصبه، ولحماية التسلط على مقدرات الدولة ومرافقها.
في خلال ساعات قليلة، يستعيد سمير جعجع صورته الأصلية. وربما هو يرتدي الآن ثيابه العسكرية الأقرب إلى جسمه وإلى قلبه. وهو يستنهض أنصاره ورجاله لـ«نصرة أهل السنّة»، بعدما أبلغه من بيدهم الأمر في الخارج أنه لا يمكن ترك المشهد مقتصراً على مجموعة شبان ملتحين يخرجون من أزقة طرابلس وقرى عكار، وأن عليه السعي والعمل الجاد لإظهار الشراكة المسيحية في الاحتجاج على انقلاب المشهد السياسي. وصار على جعجع أن يستعد لإحراق ما أمكنه في المناطق المسيحية، واستعادة التوتر في كل مناطقها، وأن يستنجد بمناصريه من قرى بشري لاحتلال الطرقات في ضبية وجونية وجبيل وشكا، إضافة إلى الأشرفية ووسط بيروت، وأن عليه العمل على إقناع من يمكن إقناعهم من القادة المسيحيين بتعطيل الجامعات والأسواق والانتشار في الأحياء لوقف الحياة حتى يعود سعد الحريري إلى السرايا الكبيرة مظفراً.
في خلال ساعات قليلة، يقرر سعد الحريري محاسبة كل الذين أحسن إليهم والده يوماً ما، وكل الذين تولى هو تغذيتهم بالمال والمناصب والنفوذ على مدى سنوات، وأن يطالبهم بالمقابل، وأن يقول لهم إنه حان وقت ردّ الجميل، وإنه يجب المشاركة في معركة بقائه رئيساً للحكومة، لأن في ذلك مصدر بقائهم على قيد الحياة السياسية وأكثر من ذلك.
في خلال ساعات قليلة لا يعود هناك أي خط أحمر. لا بأس من التواصل مع ضباط سنّة أو مسيحيين موالين لجعجع في الجيش وفي مؤسسات أمنية أخرى للبقاء على جهوزية، إذ ربما تطلب الأمر إعلان خروجهم من هذه المؤسسات، وربما تقسيم هذه المؤسسات إذا كان في ذلك ما يفيد معركة استعادة السرايا، وكأنها سلبت من ورثة الحريري، أو كأنها منزل خاص احتله غرباء. وصار الحريري يريد أن تتوقف الحياة في كل البلاد حتى يعود هو إلى السرايا، فصار يطالب التجار بالإضراب، والمعامل بالتوقف عن العمل، والمصارف بإشهار سيف الانهيار المالي، والموردين بوقف مدّ مؤسسات الدولة بحاجاتها. لم يعد سعد الحريري يأبه بأن يكون هناك كهرباء طوال الوقت، ما دام ليس في السرايا، ولا هو يهتم إذا سارت أمور الناس إن هو لم يقم في السرايا. لم يعد الحريري يطيق الأضواء حتى في سوليدير، لأنه لا يريد أن يرى شيئاً خارج كرسي رئاسة الحكومة في السرايا الكبيرة...
ولأن الشيطان هو من يمسك برؤوس الأغبياء ساعة الجنون، فإن هذا الفريق لا يهتم لشيء بعد الآن. سيستقيل نواب 14 آذار لمنع المجلس النيابي من الانعقاد. ومثلما تسقط المعارضة الحكومة، فإن 14 آذار تسقط المجلس النيابي. وهي لا تحتاج إلى انتخابات جديدة ما لم يُتّفَق مسبقاً على أنه بمعزل عن أي نتائج، فإن سعد الحريري هو رئيس الحكومة الأبدي في لبنان.
يصرخ سعد الحريري في وجهه أمام المرآة. ويصرخ في وجه كل المحيطين به، يضحك لأنه يهدد الآخرين بالنار التي تحرق كل شيء. وشعاره الوحيد: أنا ومن بعدي الطوفان!
هل هناك صفة أخرى تناسب شخصاً كهذا غير الأرعن؟