تصر «دمشق الرسمية» على إظهار ارتياحها في مواجهة كل الأخبار المتتالية من القاهرة والدوحة وأنقره، فضلاً عن كل الغرب. الابتسامة نفسها ترتسم في ظل إنذارات المهل الأخيرة وتهديدات العقوبات. لا تتوقف كثيراً عند التفاصيل لشرح أسباب الارتياح أو خلفياته، أو تبيان خريطة القوى الإقليمية أو توازنات مجلس الأمن، وسط احتمالات الانتقال من «التعريب» الى التدويل. في مواجهة كل ذلك، تكتفي دمشق الرسمية بالتعبير عن رضاها لكون التطورات قد أثبتت انسجام موقعها وموقفها مع ما تعتبره قضيتها، ومع كونها فعلاً الهدف الأول في حرب اسرائيل الأميركية على كل المنطقة.تستعيد قراءتها لكل أحداث المنطقة، من تونس الى سوريا، ومن العام 2006 وما قبله حتى اللحظة: القضية المركزية والثابتة في كل السياسات الغربية، هي وجود اسرائيل وأمنها. كل الباقي ملحق أو هامش أو تفصيل. تسخر دمشق من كل الكلام الذي يرميه خصومها حول «مهادنتها» لاسرائيل، و«هدوء» الجولان. لكنها تتعزى بأن الأمور قد ظهرت الآن جلية. فالقصة بحسب قراءتها، بدأت عند إدراك اسرائيل للخطورة المصيرية التي بات يشكلها في وجهها، محور حزب الله ـــــ حماس. فضلاً عن إدراك اسرائيل التام للمحور الخلفي لتلك المواجهة، أي سوريا ـــــ إيران. وسط هذا القلق الاسرائيلي الوجودي، كان قرار نهائي في تل أبيب بكسر المحورين. بدأ التنفيذ في لبنان في حرب تموز 2006. وكانت المفاجأة الأولى، لا بل الصدمة أو حتى بداية الهلع. الجيش الاسرائيلي لم يعد قادراً على حسم حرب خارجية. الأسطورة الاسرائيلية التاريخية باتت عاجزة عن كسب معركة ضد جيش غير نظامي. فانطلقت عندها الحسابات المقلقة. وسط البحث عن استراتيجيات جديدة بين تل أبيب وواشنطن، وفي ظل الاستعدادات لمقاربات جديدة، تولّد قرار بمحاولة تجربة أخرى في مكان آخر: عجزنا عن ضرب حزب الله لأنه محصن بتركيبة لبنانية مؤيدة، ومستند الى ظهير سوري ثابت. لذلك، وقبل الانعطاف صوب قراءات مغايرة جذرياً، فلنحاول الأسلوب نفسه، لكن في مكان آخر أقل صعوبة. هكذا كانت معركة غزة سنة 2008. لكن الصدمة هناك كانت أكبر. غزة القطاع الضيّق، المحاصر منذ أعوام، المشلع وسط صراع حماس و«فتح»، المقفل عن أي ظهير لوجستي أو استراتيجي، بفضل تعاون كامل من نظام حسني مبارك وأولاده... غزة هذه نفسها صمدت، لا بل انتصرت على الجيش الاسرائيلي.
عند هذا الواقع، تعتبر دمشق الرسمية أن اسرائيل والغرب أيقنا أن الشرق الأوسط كله قد تغير، وأن وجود اسرائيل ككيان فيه بات فعلاً في خطر. فحين تعجز آلة التدمير التاريخية الشهيرة عن حسم معركتين واحدة خارجية وأخرى شبه داخلية، وضد مجموعتين محدودتين، فهذا يعني أن أيام اسرائيل في المنطقة باتت معدودة.
بعد معركة غزة 2008، تعتقد دمشق أن التخطيط الاسرائيلي الأميركي الغربي قد بدأ فعلاً لـ«الربيع العربي». القراءة كانت واضحة ومختصرة ومبسطة: ثنائي حزب الله ـــــ حماس بات قادراً على إزالة اسرائيل. فشلنا في القضاء عليه. خلف هذا المحور ثمة ثنائي آخر: سوريا ـــــ إيران. فلنحاول هناك. محاولة أولى في طهران في حزيران 2009، مع «ثورة المخمل»، وأولى بوادر حرب مواقع التواصل الاجتماعي عبر فايسبوك وتويتر. النتيجة مقبولة: خروق جيدة نسبياً، لكن النتيجة النهائية محدودة، نظراً الى عدم وجود بدائل إيرانية جاهزة. لكن التبدل الاستراتيجي كان قد بدأ. استعانة تكتية بحشد من القوى الحليفة النائمة: تركيا وقطر شوكة ثنائية للعب أكثر من دور: الاستفادة من التلميع السابق لصورة «الجزيرة» و«دافوس» وسفينة مرمرة، للانطلاق في عملية الاتفاق على صفقة شاملة مع الإخوان المسلمين: العرض صريح واضح: مطلوب رأس الأسد، لكسر الجسر الإيراني الغزاوي في وسطه. نحن ندعمكم للتنفيذ. ماذا تريدون في المقابل؟ الجواب الإخواني جاء سريعاً: لا نتعامل بالقِطعة. تعالوا نتفاوض حول كل المنطقة، من المغرب الى تركيا. اتفقنا، قال الأميركي. لكن بشرط واحد، في حال انتقلنا الى اللعب على مستوى المنطقة، مطلوب منكم ضمانات لاسرائيل. لا مشكلة، كان الجواب الإخواني. أصلاً لا وجود لعداء تجاه اسرائيل في كل أدبياتنا. اتفقنا؟ اتفقنا. البداية من تونس، لأن لتركيا قدرة كبيرة هناك. قضمة أولى سهلة الهضم. «النهضة» جاهزة، وهي جزء من تركيبتنا وتركيبة إردوغان. بعدها نمشي بحسب التيسير. ملاحظة على الهامش: هناك مسيحيون وأقليات في طريقنا. غداً سيثيرون ضجة عندنا أو عندكم... لا تخافوا، نحن نسكتهم في إعلامنا، ثم إنهم سيهربون بسرعة. أما رأيتم في العراق؟ ممتاز. نلتقي إذن في قصر الشعب. حسناً، لكن ضروري جداً قبل 31 كانون الأول. بعده كل الاتفاق ساقط، مع بند جزائي بحجة عدم التسليم على الموعد... الوقت قاتل. اللاعبون أيضاً.