اذا صحّ ان انتخاب رئيس للجمهورية بات على قابي قوس او ادنى، ومرشحه الوحيد هو الرئيس ميشال عون بغالبية طاغية، وصحّ ايضاً ان النائب سليمان فرنجيه سيستمر في الترشّح والمنافسة وصولاً الى صندوقة الاقتراع من دون ان يتوقع احد تدخّل الرئيس السوري بشار الاسد او الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله والتمني عليه الانسحاب لعون... اذا صحّ ذلك كله تبعاً للمواقف المعلنة، فأي مغزى عندئذ لمضي فرنجيه في معركة انتخابية غير متكافئة في عدد الاصوات، وغير ذات جدوى في مغزاها ومضمونها. او على الاصح منافسة لا تحمل قضية بين مرشحي الفريق الواحد، اختار الحلفاء والخصوم على السواء احدهما وتخلّوا عن الآخر؟ثمة سابقتان في استحقاقين رئاسيين بين مرشحين اثنين لم يكونا حليفين، كالآن، مضيا في المواجهة في اقتراع غير متكافىء في الاصل، لكن "قضية" رافقت هذين الاستحقاقين هي التي بقيت، ولا تزال يقصّها تاريخ الاستحقاقات الرئاسية المتعاقبة: الاولى عام 1958 بين العميد ريمون اده وقائد الجيش اللواء فؤاد شهاب، والثانية عام 1976 بين اده وحاكم مصرف لبنان الياس سركيس.
مسؤول حزبي كبير نائب حالي ووزير سابق التقى الاسد وحمل كلامه الى بنشعي وبيروت

للمفارقة ان احد مرشحي الاستحقاق هو نفسه، هو اكثر مَن ترك في الحياة الدستورية اللبنانية دروساً لا يرتوى منها في الديموقراطية.
في استحقاق 1958، عارفاً سلفاً بنتائج الاقتراع، اصر اده على الاستمرار في المنافسة تحت شعارين: اولهما رفضه ترشيح عسكري لرئاسة الجمهورية وافتتاح سابقة تتكرّر في ما بعد وقد اصاب حدسه، وثانيهما رفضه تسمية رئيس للبنان في اتفاق خارجي بين دولتين هما الولايات المتحدة ومصر. مضى في المنافسة وحرم شهاب الفوز في الدورة الاولى من الاقتراع، الا انه تمسك بوجهة نظره كي يقول انه يرفض ما كان يحدث. ما تبقى من انتخابات 1958 ليس انتخاب شهاب فحسب، بل ايضاً وفي منزلة موازية "قضية" اده اذ جعلت ما حصل ذا مغزى ودرساً.
في استحقاق 1976 نافس اده سركيس وكان يعرف انه الفائز من وفرة الدعم والتأييد الذي احاط به، الا انه اقرن مضيه في المنافسة بشعارين ايضاً متشابهين الى حد: اولهما معارضته دخول الجيش السوري الى لبنان، وثانيهما رفض انتخابه بدعم سوري. كلا الشعارين عُرضا عليه لتأييد انتخابه وضمان فوزه فلم يجارهما. ليست اصوات اده مَن حرمت سركيس الفوز في الدورة الاولى كون مؤيديه قاطعوا جلسة 1976، بيد ان ما تبقى من ذلك اليوم "قضية" الرجل: الوقوف في طريق التدخّل الخارجي في الاستحقاق الرئاسي لفرض رئيس يصير الى التصويت له.
هذه المرة، ليس في اصرار نائب زغرتا على الاستمرار في الترشّح "قضية" يحملها. فهو ــ كما عون وهما في محور سياسي واحد ــ يعرفان ان انتخاب اي منهما لا يكتمل بلا تدخل خارجي. عندما رشحه الرئيس سعد الحريري في تشرين الثاني 2015 ــ وظُنّ انه سينتخب ــ كان بناء على جهد فرنسي ـ سعودي اصطدم بموقف حليفه حزب الله الذي لم يلاقِ هذا المسعى. وحينما يرشح الحريري نفسه عون في وقت قريب، يعوّل بذلك على حياد سعودي في احسن الاحوال اذ اخفق في الحصول على تأييد الرياض، وفي ظل دعم ايراني لا يتحفظ هو الآخر عن انتخاب فرنجيه ما دام المرشحان المارونيان يدوران في فلك الحليف الشيعي القوي حزب الله. وكما يحظى فرنجيه بدعم دمشق، كذلك عون. كلاهما صديق لرئيسها.
اما الوجه الداخلي للاستحقاق، فلا يقل بؤساً:
ــ انتقل الحريري من ترشيح فرنجيه الى ترشيح عون في تصرّف افتقر الى الاناقة واللياقة في سبيل وصوله هو الى السرايا. على ان فتح ابوابها امامه لا
يزال بعد غير مؤكد. الخبر اليقين لا يزال في جعبة مسؤول حزبي كبير وهو ايضاً نائب حالي ووزير سابق على درجة عالية من احتراف العلاقة مع دمشق، قابل الاسد وسمع منه هذه الخلاصة، ومرّ في طريق عودته على بنشعي وأسمع اصحاب البيت ما قد سمع. كذلك وصل الخبر الى المعنيين الرئيسيين الآخرين عبر شخصية ثالثة واسعة التواصل بين الداخل والقيادة السورية.
ــ بعدما تمسك بمرشحه النائب هنري حلو سنة ونصف سنة واصر على جديته، انضم النائب وليد جنبلاط الى ترشيح فرنجيه قبل سنة في مثل هذه الايام، ولا يرى اليوم مانعاً من الانضمام الى ترشيح عون كرمى لحزب الله اكثر منه مجاراة للحريري. الا ان جنبلاط، كرئيس المجلس نبيه برّي، ابطأ المستعجلين: حصل على جواب سلبي من مدير المخابرات السعودية خالد حميدان حيال ترشيح عون، الا انه لا يبصر معادلة عون ـ الحريري نسخة مطابقة لموقف سعودي ـ ايراني، ولا يهمل بالتأكيد دور سوريا في الداخل.
ــ لم تذهب القوات اللبنانية الى ترشيح عون الا بعد ترشيح الحريري فرنجيه، ولذا فان رئيسها سمير جعجع افضل الرابحين حظوظاً في الانتخاب الوشيك ـ عندما يحصل ـ اذ سيحسب نفسه العرّاب الفعلي لوصول عون الى الرئاسة كي يضع هو يده على الشارع المسيحي. انه "الصهر" الثاني للعهد.
ــ اما الحلفاء الآخرون في 14 آذار، فيذهبون الى انتخاب الرئيس بالمفرّق. لم يُسألوا رأيهم في ما جرى في الاسابيع الاخيرة، ولا يدخلون في حساب التفاهمات الجارية.
ما بات عليه الاستحقاق الرئاسي اليوم ليس انتخاب عون، مع ان معاونيه اعدوا حقائب مكاتبهم في قصر بعبدا، بل ما قد يترتب على تسوية تبدو حتى الآن قابلة للحياة ـ والبعض يعتقد جازماً انها قطعت الشوط الاطول ـ الا ان رصاصة طائشة واحدة، وهي حتماً ليست طائشة، تختمها للفور: ماذا لو قالت السعودية لا لعون، وقالت سوريا لا للحريري؟
سؤال افتراضي يجعل من استمرار فرنجيه في المنافسة بلا "قضية".