أصدقاء من المعارضة السورية قالوا لي أمس «إن ما أصررتم منذ اليوم الأول على وجوده، أي المجموعات المسلحة والمناخات الطائفية، بدأ يبرز الآن». هؤلاء يعتقدون حتماً بأن النظام هو من يقف خلف هذه الظاهرة، وهم يرفضون حتى الآن اعتبارها ظاهرة، بل مجرد حالات فردية لا يمكن أن تمثل جوهر المشهد السائد في سوريا. لكن هؤلاء يقرّون من جهة ثانية بأن إعلان الالتزام بطرف من أطراف المعارضة ليس أمراً ضرورياً، وإن كانوا يفضّلون المجلس الوطني على الآخرين من المعارضين. أما في ما خصّ «الجيش الحر»، فهم يعتقدون أنه تشكيل مبهم يعطى أكثر من حجمه، ولكن قد يتطور الأمر ليكون تنظيماً متماسكاً إذا حظي بدعم الناس وآخرين.لكن، كيف ستسير الأمور من الآن فصاعداً؟ يجيب الأصدقاء بسرعة: سوف لن يتوقف الحراك حتى سقوط النظام، ومهما تطلّب الأمر من وقت وتضحيات!
يمكن استحضار موقف من الموالين، يكون أكثر شدة في حماسته أو حتى في تشخيصه للواقع الحالي. لكن الموقف عند المعارضين له أهمية لكونه يتدرج صوب انعزالية تقود إلى استنتاجات خطيرة لمن يفكر في سوريا عن بعد، ومن يبحث عن دور لهذه الدولة المركزية في منطقتنا، ولا سيما أن المعارضين الذين يأخذون وقتهم في التفكير قبل صياغة موقفهم، وجلّ هؤلاء من جماعة الخارج، يقدمون نظريات ومواقف وتصورات تصبّ جميعها في خانة أن سوريا الجديدة التي يعدوننا بها، هي سوريا المشغولة بنفسها، وغير المهتمة بأي شيء خارجها. وكان هؤلاء يعتقدون أنه بإمكان أحد، مهما كبر حجمه أو صغر، أن يتصرف كأنه يعيش خارج هذا العالم. ويتصرف أصحاب هذا المنطق بكثير من السذاجة، إن لم نقل أكثر، وهم يتحدثون عن مواقفهم إزاء المسائل الاستراتيجية. وفي هذا المجال، من المفيد مناقشة المجلس الوطني من خلال برنامجه السياسي الذي وزّع قبل أسبوعين تقريباً، والذي تدل بنوده على هوية من صاغه: إنه العقل الأقلّوي والانعزالي الذي لم يتعلم من التاريخ الحديث أي درس يذكر!
وبينما يصرّ ناطقون بارزون باسم المجلس على أنهم يرفضون عسكرة الحراك ويرفضون أي تدخل خارجي في بلادهم، وخصوصاً التدخل العسكري، إلا أن البرنامج الذي يشدد على هدف «إسقاط النظام بكل رموزه والحفاظ على سلمية التحرك» يقول إن العمل سيكون على «تعبئة المجتمعين العربي والدولي لتعزيز الضغط على النظام بشتى أنواعه». وهذا أمر لا يحتاج إلى أي شرح ما دام البرنامج لم يشر صراحة إلى رفض التدخل الخارجي. وهو تدخل يمكن أن يكون بـ«شتى الأنواع» أيضاً، من السياسي إلى العقوبات الاقتصادية والمالية، إلى الحملة العسكرية، علماً بأن البرنامج نفسه يسارع إلى القول في الفقرة التالية إنه سيعمل على «تأمين الحماية الدولية للمدنيين ودعم آليات عربية ودولية مشتركة لتحقيقها وتأمين تنفيذها من خلال المؤسسات الأممية في أسرع وقت»، وهل منّا من يحتاج إلى سؤال عن كيفية توفير هذه الآليات الأممية، أم علينا انتظار ما يقرر عرب أميركا ومجلس الأمن؟
وإذا كان من حق المجلس الوطني السعي إلى نيل اعتراف العالم، فهو يعرف أن الأمر لا يهم ما لم يكن مرتبطاً بخطوات عملانية لإسقاط الرئيس الأسد. وفي هذا الإطار، ينتقل البرنامج إلى التناقض الأول، إذ بينما هو لا يمانع قيام تشكيل عسكري مستقل (الجيش الحر) ويدعوه إلى حماية المدنيين، لأنه يعتبر الجيش النظامي أداة طيّعة بيد السلطة، فهو يتعهد بالعمل مع «المؤسسة العسكرية لتسيير المرحلة الانتقالية وضمان أمن البلاد ووحدتها». هل يقصد المجلس هنا المؤسسة العسكرية الحالية أو تلك التي سيعمل الجيش الحر على إنشائها؟
وإلى جانب عبارات عن الأزمة الاقتصادية يمكن اقتباسها من برنامج حزب البعث نفسه أو من البيانات الوزارية لحكومات لبنان، بما خص التنمية ومواجهة الفقر وضمان العدالة والمساواة، يعود البرنامج إلى السذاجة نفسها بحديثه عن «أن سوريا الجديدة ستمثّل بنظامها المدني الديموقراطي أفضل ضمانة لجميع فئات الشعب السوري القومية والدينية والطائفية»، لكنه يعود ليقول إن الدستور الجديد سوف «يكفل الحقوق القومية للشعب الكردي والشعب الأشوري السرياني وحلّ المسألتين الكردية والأشورية السريانية حلاً ديموقراطياً عادلاً في إطار وحدة سوريا»، ما يعني أن من صاغ هذه الفقرة كان يفكر في كيفية جذب الأكراد والأشوريين إلى صفوف المعارضة من خلال ترضيتهم بعبارات ليس هناك عاقل في سوريا يمكنه تطبيقها، كذلك التخلي المسبق عن سيادة الدولة المطلقة، والقبول بمنطق التقسيم الطائفي الذي دمر بلداناً على مر التاريخ، وهذا هو لبنان مثل قائم ليل نهار.
لكن السذاجة، أو أكثر، تظهر جليّة في الشق المتعلق بالسياسة الخارجية لسوريا، إذ إن البرنامج يعد (من يعد؟ شعبه أم العالم؟) بأن سوريا «ستكون دولة إيجابية وعامل استقرار حقيقي في محيطها العربي والإقليمي وعلى المستوى الدولي». وهذه العبارات يمكن استعادتها من كل بيانات الإدانة التي تقوم بها الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الاستعمارية والخليج العربي لسوريا ولكل حكومة أو جهة تعارض سياساتها في المنطقة. أي إن المجلس الوطني يعدنا بأنه سيقف على خاطر المجتمع الدولي (نفسه) في ما خصّ موقف سوريا من المسائل الإقليمية. وسوف تكون سوريا مثل «الولد الشاطر» الذي لن يتدخل في شؤون الآخرين، علماً بأن الجميع يعرف أن «شؤون الآخرين» يقصد بها المسألة الفلسطينية والسياسات الأميركية والغربية في منطقتنا.
ولكي لا يعتب أحد على «الفائض في الوطنية» من جانب معدّي برنامج المجلس الوطني، فهو يبلغنا أن سوريا «الجديدة ستعمل على استعادة سيادتها في الجولان المحتل بالاستناد إلى قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، وستدعم الحقوق الكاملة والمشروعة للشعب الفلسطيني». وهذه العبارات يمكن العثور عليها، في ثوان، ضمن بيانات فريق 14 آذار في لبنان، علماً بأن فارس سعيد يفقد صوته وهو يصف إسرائيل بالعدوّ، بينما لا يجرؤ جهابذة المجلس الوطني على ذكر اسم إسرائيل.
وإذا كان المعارضون يتّهمون النظام الحالي بأنه لا يقاتل لاستعادة الجولان، فهم هنا لا يريدون أن يأخذ عليهم الغرب وعربه أنهم قد يفكرون في المقاومة لأجل استعادة الجولان، لأنهم سوف يبذلون أقصى جهودهم من خلال الشرعية الدولية، أي تماماً كما تقول الاستراتيجية الدفاعية لقائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع.
ليس معروفاً أيّ وصف يناسب هذا البرنامج، غير أنه يمكن التأكد مرة جديدة من أن هذا الجمع من المعارضين يهتم بحكم مدينة دمشق وحدها، وترك بقية البلاد مشرعة للفقر والتحارب الطائفي، مع أكبر قدر من البيانات المطالبة بحرية الجولان.
بئس معارضة كهذه!