يتساءل كثيرون عن مصير تصريحات وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، عن المبادرة لحلّ الازمة اليمنية، التي أدلى بها عقب لقائه بوزراء خارجية دول الخليج في جدة، نهاية آب الماضي.الحقيقة التي قد لا يعرفها هؤلاء هي أن المبادرة المذكورة ليست سوى تصريحات لم تتجاوز المؤتمر الصحافي الذي عقده كيري، ومع ذلك تلقّفتها وسائل الإعلام، وبإيعاز سابق من واشنطن، لتجعلها مبادرة مطروحة جميع الأطراف المعنية.
في سلطنة عُمان، وبينما كان وفد حركة «أنصار الله» و«المؤتمر الشعبي العام» يلتقيان المبعوث الدولي اسماعيل ولد الشيخ، بعد أيام فقط من تصريحات كيري والاحتفاء الإعلامي بما أصبح يعرف بـ«مبادرة كيري»، لم يُقدم ولد الشيخ أي تفاصيل عن تلك المبادرة، لا شفهية ولا مكتوبة، بخلاف المتوقع. بل هو تجنّب التطرق إليها وكأن شيئاً لم يكن، ليغادر مسقط بعدما عرض مقترح التهدئة لـ 72 ساعة، قبل أن يعود إلى العاصمة العمانية مرة أخرى مطلع الشهر الجاري، من دون أن يكون موضوع المبادرة ضمن أجندة اللقاءات التي عقدها ولد الشيخ مع وفد صنعاء.
وبحسب مصادر حضرت تلك اللقاءات، تحفّظ ولد الشيخ على الخوض في تفاصيل المبادرة، واقتصر ردّه على تساؤلات سياسيين يمنيين بالقول، إن «هناك أفكارا تجري بلورتها». حينها، كانت وسائل إعلام دولية تؤكد تسليم ولد الشيخ «وفد صنعاء» مبادرة كيري، وهو ما لم يحدث حتى اللحظة.
قد تتوجه صنعاء إلى تعزيز العلاقة مع روسيا لرفع بعض المعاناة

ولكن لماذا الترويج لمبادرة كيري؟

يمكن إرجاع تصريحات كيري عن مبادرة جديدة بشأن اليمن إلى جملة من الأسباب، أبرزها خشية الإدارة الأميركية من دور روسي متوقع في الملف اليمني، وهو ما يعني خسارة أميركية أخرى في منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما أن تصريحات كيري جاءت بعد موقف روسي غير مسبوق بشأن الأزمة اليمنية في مجلس الأمن، حيث أعاقت موسكو مشروعاً غربياً كان يسعى لإدانة تحالف صنعاء واعتباره معرقلاً للحل السياسي، وهو ما كان سيفتح الباب أمام محاولات الحسم العسكري والتصعيد العدواني الشامل، إنما هذه المرة تحت مظلة مجلس الأمن.
الاستمرار في الحديث عن مبادرة كيري والترويج الدعائي لها، يأتي في إطار المسكنات الأميركية للاستمرار في التحكم بالملف اليمني وإبقاء الملف بيد الرياض ــ واشنطن ومعهما لندن. وكذلك محاولة تحسين وجه «التحالف» عالمياً بعد تصاعد تداعيات الجرائم الوحشية المرتكبة بحق اليمنيين، حيث تحرص الإدارة الأميركية على التدخل بين فترة وأخرى، تارةً بالحديث عن حل شامل وتارةً أخرى، بمقترحات الهدنة ووقف إطلاق النار والتباكي على الوضع الإنساني، وذلك لقطع الطريق أمام أي جهود دولية قد تربك خطة التحالف العدواني.
من جهة أخرى، وفي الوقت الذي كانت فيه واشنطن ولندن تدعوان إلى وقف الحرب وفتح المجال لوصول المساعدات الإنسانية، ولا سيما بعد المجزرة المروعة في صنعاء، كانت دول التحالف العدواني ترفض رفع الحظر عن مطار صنعاء لنقل الجرحى للعلاج، بينما فُتح المطار لاستقبال رحلة واحدة فقط يوم 15 تشرين الأول، لنقل أميركيين إثنين كانا محتجزين لدى صنعاء مقابل عودة الوفد من مسقط ضمن صفقة جرت بوساطة عمانية.
المثير للاستغراب هنا، هو أن عودة الوفد إلى صنعاء بتلك الطريقة المفاجئة جاءت بعد أيام فقط من اتصالات مكثفة أجراها الوفد مع الجانب الروسي، بحسب مصادر موثوق بها، كانت ستتوج بزيارة إلى موسكو. ويمكن القول إن السماح بعودة الوفد بعد أشهر من المنع، يؤكد حرص الإدارة الأميركية على عدم حدوث أي تقارب حقيقي بين صنعاء وموسكو.
غير أن مؤشرات التقارب بدت واضحة على الأقل في بروز النيّات الروسية بالاضطلاع بدور أكبر في اليمن. ولعل تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، تؤكد ذلك، إذ قال في مؤتمر صحافي عقده في موسكو يوم الجمعة الماضي، إن واشنطن والتحالف السعودي ليست لديهما الجدية لانهاء معاناة اليمنيين، مضيفاً أنه ما من نيّات جادة نحو إنهاء حرب اليمن وإنهاء معاناة اليمنيين وإنجاز مصالحة وطنية.
كذلك، فإن المسكنات الأميركية في التعاطي مع الأزمة اليمنية، تظل أسلوباً جديداً يحفظ بقاء اليمن تحت الوصاية السعودية ـ الأميركية، على الأقل، حتى تأتي الإدارة الأميركية الجديدة التي ستقرر كيفية التعاطي مع الملف اليمني، إما بالتهدئة أو بالتصعيد. أما صنعاء، فهي أكثر إدراكاً لكون العدوان أميركي قبل أن يكون سعودياً. وبرغم حرصها على عدم تدويل الملف اليمني وإبقائه ضمن الجهود الأممية، إذ سبق للوفد أن أكد أن أي مبادرة للحل يجب أن تقدم من الأمم المتحدة أو عبرها، الأمر الذي يُبقي القرار اليمني بيد اليمنيين، قبل أن يصبح محل تجاذبات دولية لا تعترف بتطلعات الشعب اليمني بقدر اعترافها بمبدأ المصالح الدولية، لكن يظل التساؤل: هل بالفعل سيظل الملف اليمني في إطار الأمم المتحدة وفي حقيقة الأمر بيد الرياض وواشنطن، أم أن أجندة الروس قد تقود إلى دور مهم قد تؤديه موسكو عبر التحالف مع صنعاء، على الأقل للضغط من أجل حل الملفين السوري واليمني في الوقت نفسه؟ وقبل كل ذلك، هل يستمر تحالف صنعاء في الخشية من مخاطر التدويل أم أن منطق الضرورة سيدفعه لتعزيز العلاقة مع روسيا لرفع بعض المعاناة وإيقاف مسلسل الجرائم والرد على أساليب المكر والخداع الأميركيين؟