حتى يوم أمس، كانت قوات الأمن و"الأسايش" (الكردية) تواصل ملاحقة من بقي من منفذي هجوم تنظيم "داعش" على المدينة النفطية كركوك، التي تتنازع بغداد وأربيل على سلطتها، خصوصاً أنها "قلب كردستان"، وفق الوصف الكردي.وبحسب مصادر محلية، فإن أكثر من مئتي مسلح تمكّنوا من التسلل إلى المدينة، في فترة سابقة، انطلاقاً من جنوبي المحافظة وغربها، مشكّلين خلايا نائمة، هاجمت مبنى الإدارة المحلية، والمراكز الأمنية والحزبية الواقعة وسط المدينة. وبعد ثلاثة أيّام من الاشتباكات، لا يزال التنظيم يُحكم سيطرته على قضاء الدبس (25 كلم شمال مدينة الحويجة)، بعدما هاجم عناصره مشروعاً للطاقة، وقتلوا أكثر من عشرة فنيين، بينهم خبراء إيرانيون يعملون في المشروع.
شكّل الذهاب إلى الموصل قبل الحويجة ومحيط كركوك خطأً استراتيجياً

ويسيطر مسلحو التنظيم منذ عام 2014 على قوس يمتد من جنوب غربي كركوك في ناحية الرشاد، إلى الشمال الغربي عند قضاء الحويجة، مشكّلين بذلك تهديداً لمحافظات كركوك، وديالى، وصلاح الدين، والأنبار. وتتصل هذه المنطقة بواسطة سلسلة جبلية بجنوبي الموصل. ويشكّل القوس "الداعشي"، جنوبي كركوك، منطقة استنزاف للقوات العراقية و"الحشد الشعبي"، في بيجي، والقيارة، والشرقاط، فضلاً عن مناطق أخرى في محيط مدينة سامراء، المشهورة بمراقدها المقدسة، والتي شهدت خروقات أمنية أخيراً. وقد أسهمت الحساسية الكردية إزاء دخول الجيش العراقي و"الحشد الشعبي" إلى حدود كركوك في إطالة عمر هذا "الجيب الداعشي"، الذي تحوّل إلى نقطة انطلاق لمهاجمة بلدات في طوزخورماتو، وداقوق، وتازه، وبلدة بشير التي احتلها التنظيم طوال عام وأكثر.
ونظراً إلى المكانة الاستراتيجية في خريطة العمليات العسكرية، كان رئيس الوزراء، حيدر العبادي، قد أعلن مراراً أنّ الأولوية ستكون لتحرير الحويجة، والبلدات العربية التي يسيطر عليها "داعش"، قبل الذهاب إلى الموصل. وقبل أربعة أيام من انطلاق عمليات الموصل، زار العبادي مدينة كركوك، وناقش مع محافظها وقيادات "البشمركة"، التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني، بزعامة جلال طالباني، والأطراف العربية، "خطّة تحرير الحويجة".
وإثر تحرير الفلوجة، في آب الماضي، ثار جدل داخل الأوساط الأمنية والعسكرية حول "بوصلة العمليات" المقبلة. فأغلب القيادات الميدانية (من بينها "الحشد الشعبي" وزعامات العشائر السنية)، وافقت على ضرورة المضي نحو "تحرير جنوبي كركوك، وتطهير ما بقي من الأنبار"، وصولاً إلى مدينة القائم، الواقعة عند الحدود العراقية ــ السورية، وذلك قبل الذهاب إلى الموصل. ويدعّم أنصار هذه النظرية رؤيتهم بالإشارة إلى عدم جدوى إطلاق "عملية تحرير الموصل"، من دون تأمين ظهر القوات المتجهة شمالاً (في ما يتعلق بكركوك)، ومن دون تأمين الحدود بين الموصل وسوريا (في ما يتعلق بالقائم والبلدات الحدودية). وإثر وقوع "غزوة كركوك" يوم الجمعة، عاد الجدل السابق إلى الصدارة مجدّداً، إذ وجّهت أطراف متباينة انتقادات لاذعة لـ"القائد العام"، واعتبرت "لجنة الأمن والدفاع"، في مجلس النواب، "الذهاب إلى الموصل قبل تحرير الحويجة ومحيط كركوك بأنه خطأ استراتيجي". وفي السياق، كان "الحشد الشعبي" أشدّ نقداً للخرق الأمني الخطير الذي تعرضت له مدينة كركوك.
عموماً، كان إعلان العبادي عن انطلاق "عمليات تحرير الموصل"، قد أسدل الستار بشأن هذا الجدل، بانحيازه إلى الرؤية الأميركية. وبدت الانتخابات الأميركية عاملاً مؤثراً في ترجيح كفة الرؤية التي سرّعت بإطلاق عمليات الموصل، رغماً عن الاعتراضات والتحفظات التي أبدتها أطراف عراقية وازنة ومؤثرة، في القرارين العسكري والأمني. وقد تتجلى تقاطعات الأطراف المؤيدة لإطلاق عمليات الموصل قبل غيرها، بشكل واضح على مسرح العمليات التي تركّزت على المحورين الشرقي والجنوبي لمدينة الموصل، مع إبقاء القوات المشتركة بعيدةً عن المحورين الشمالي والغربي، اللذين يتصلان بالأراضي السورية. ووفق مصادر أمنية رفيعة، فإن "الرؤية الأميركية تتلخص بممارسة الضغط على دفاعات داعش في محاولة لإجبار التنظيم على الانتقال إلى الجانب الغربي من المدينة، حيث المدينة القديمة بخريطتها المعقدة، وصولاً إلى طرد ما بقي من التنظيم إلى صحراء الموصل، وتوجيههم نحو الرقة ودير الزور السوريتين". وتلفت المصادر إلى أنّ "واشنطن تسعى إلى تحرير الموصل بعملية سريعة ونظيفة، لتفادي عملية نزوح كبيرة، وحماية البنى التحتية لثاني أكبر المدن العراقية، إضافة إلى تسجيل نقطة في مرمى روسيا، التي بدت عالقة في حلب السورية منذ أشهر".