انتقال واضح من استراتيجية الدفاع من موقع الدفاع، إلى الهجوم من موقع الدفاع، عبرت عنه تطورات الأيام الأخيرة بدءاً بتصريحات قائد فيلق القدس الفريق قاسم سليماني الخميس الماضي، إلى التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية السوري وليد المعلم، ومعها ما بدأت ترشح عن موسكو من «مواقف مبدئية» تؤكد عزم روسيا الدفاع عن سوريا. مراجعة لتحركات عواصم الممانعة خلال الأشهر القليلة الماضية تظهر أنها كانت «حراكاً سلبياً» يستهدف الحد من الأضرار التي تتسبب فيها خطوات المحور المقابل، خاصة في سوريا، حيث اقتصر العمل على مساعدة النظام بالمال للحد من خسائره الاقتصادية، وبالوسائل التقنية التي تمكنه من تأطير الحراك الشعبي ومواجهة المجموعات المسلحة، مع رسائل تحذيرية غير معلنة وجهت إلى أكثر من طرف. حتى بدا وكأن الطرف الآخر، عرب أميركا ومعهم تركيا والغرب، يسبق دائماً بخطوة إلى الأمام. تجلى ذلك بأوضح صوره في خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة الخميس مع المهلة المذلة التي اعطيت لسوريا للتوقيع على البروتوكول الشهير. ومنذ ذلك الوقت، دخل الصراع على سوريا مرحلة جديدة، لها قواعدها وقوانينها الخاصة، مع تغييرات على المستويين الكمي والنوعي. المعلومات الواردة من طهران ودمشق تتحدث عن تكثيف حركة المشاورات والاتصالات اليومية بين الجانبين، مشيرة إلى أن نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد زار الأحد إيران حيث مكث لساعات ناقش في خلالها مجمل القضايا التي تعني الطرفين واتفقوا على مواقف مشتركة. ويبدو أن الاستحقاق الإقليمي الأكثر إلحاحاً حالياً هو الاجتماع المقرر في جدة يوم غد الخميس لمنظمة المؤتمر الإسلامي التي «تعاني احتكاراً سعودياً تركياً». وتكشف المعلومات نفسها عن حملة اتصالات تجريها العاصمتان مع الدول الأعضاء في المنظمة للحؤول دون صدور قرارات تحاكي قرارات جامعة الدول العربية بحق سوريا أو مؤيدة لها، ما يزيد من مدى الطوق الذي يحاول الغرب فرضه على دمشق، أو بالحد الأدنى يعطي مشروعية للمقررات العربية.
وفي السياق، صدر قرار عن المرشد علي خامنئي أبلغ يوم السبت الماضي إلى مجلس الشورى الإسلامي وكل الأجهزة المعنية في إيران، بالوقوف إلى جانب سوريا ودعمها بكل السبل ومهما كانت التكلفة. قرار أبلغ رسمياً، في اليوم نفسه، إلى دمشق التي سارعت إلى ارسال المقداد للتشاور، علماً أن المسؤولين السوريين المعنيين بالملف الإيراني، والمسؤولين الإيرانيين المعنيين بالملف السوري، في حركة دائمة بين البلدين.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن بعض أطراف الدولة في إيران لم يكن مع «وضع كل البيض الإيراني في السلة السورية». كان هذا البعض يقول إن نظام الرئيس بشار الأسد «مهم جداً بالنسبة إلى إيران، لكن سقوطه ليس آخر الدنيا، في النهاية لا شك في أننا نستطيع أن نتعامل مع أي نظام مقبل في دمشق». حصل ذلك قبل أشهر، مع اشتداد حدة الاضطرابات في سوريا. وقتها قال المرشد للمعنيين جملته المفتاح: «اذهبوا وجدوا الطرق المناسبة التي تحفظ للنظام السوري بقاءه ولسوريا عزتها ومنعتها».
كان معروفاً منذ ذلك الحين أن الدوائر المشاكسة، التي تعترض على الوقوف إلى جانب سوريا بهذا الحزم، من المجموعات المحيطة بالرئيس محمود أحمدي نجاد، وخاصة تلك المحسوبة على صهره ومعاونه اسفنديار رحيم مشائي. مجموعات ترى أن كل ما يجري في العالم العربي «ليس سوى لعبة ويكيليكس»، وهي لا تزال تراهن على توافق إيراني سعودي ينعكس تفاهمات في المنطقة كلها.
في المقابل، يرى خامنئي أن سوريا، كدولة وبلد، في خطر، وما المطالبة بالإصلاحات سوى كذبة يتستر خلفها الساعون إلى معاقبة دمشق والنيل منها بسبب مواقفها في صراع المنطقة، وبالتالي يجب الدفاع عنها بكل السبل حفاظاً على المقاومة وفلسطين. وهو ليس مستعداً أبداً لخسارة انجازات السنوات السابقة من أجل أشخاص لديهم قصور في القراءة والتحليل. وبالتالي الوضع ما عاد يحتمل أي التباس. من هنا جاءت إطاحة مشائي من لجنة الشؤون الثقافية في الحكومة واستبداله بوزير الارشاد محمد حسيني. يوم أول من أمس كان بالغ الأهمية في هذا السياق، إذ عُقد اجتماع لرؤساء اللجان القضائية والتشريعية والتنفيذية في مجلس الشورى الإسلامي «حُسمت فيه قضايا الداخل التي تعوق الاصطفاف الكامل إلى جانب سوريا».
ومن أولى القرارات التي اتخذت في هذا الإطار، تزويد سوريا بكل حاجتها من البتروكيمياويات، تلك الحاجة التي كانت تلبيها من خلال الاستيراد من السعودية. هناك أيضاً قرار بإدخال جميع المعاملات التجارية السورية في الدائرة المغلقة التي بنتها إيران على مدى العقود الماضية.
ومعروف أن إيران أقامت شبكة من الصلات التجارية مع عدد كبير من الدول، بينها الصين، لا حاجة فيها إلى حركة تحويل الأموال عبر المصارف. دائرة تقوم على ان تستورد إيران ما تحتاج إليه من هذه الدول من بضائع وخدمات من الشركات الخاصة على أن تقدم هذه الأخيرة الفواتير إلى الدوائر الرسمية المعنية في دولها التي تعمل أيضاً على أن تستورد نيابة عن الشركات العاملة فيها ما تحتاج إليه هذه الأخيرة من إيران وخاصة النفط. وعوضاً عن تسديد قيمة البضائع المستوردة من إيران أو المصدرة إليها نقداً، تدفع إلى الشركات التي استوردت أو صدرت بضائع من الجمهورية الإسلامية وإليها في إطار مقاصة تجرى كل فترة.
وفي إطار «الحراك الإيجابي» الذي يستهدف ردع الطرف الآخر عن الإمعان في جهوده العدائية ضد محور الممانعة، تبدو لافتةً هذه الحملة المنسقة من التصريحات، التي ما فتئ يدلي بها قادة القوات المسلحة الإيرانية منذ نحو اسبوع. البداية كانت مع كلام قائد فيلق القدس الذائع الصيت، قاسم سلماني، يوم الخميس الماضي في تصريح هو الأول له، من حيث إنه خطاب علني ومباشر. قالها بلا أي مواربة: لقد ولدت إيرانات جديدة في كل من مصر وليبيا والبحرين واليمن «سواء اردتم ام لم تريدوا». تلاه يوم السبت قائد القوة الجوية التابعة للحرس الثوري، امير علي حاجي زادة، الذي أكد استعداد طهران لمهاجمة الدرع الصاروخية لحلف الاطلسي في تركيا «في حالة تعرضنا لتهديد، وسنتبع ذلك بضرب اهداف أخرى». جاء يوم الأحد ومعه خرج وزير الدفاع الايراني احمد وحيدي متوعداً إسرائيل بـ150 ألف صاروخ وأميركا بـ«حرب حقيقة إذا ارتكب ساستها أي حماقة». ومع حلول الاثنين، كان قائد البحرية الإيرانية الأميرال حبيب الله سياري يعلن أن البوارج الإيرانية ستخرج قريباً إلى المحيطات، مشيراً إلى أن الخطوة الأولى في هذا الإطار مناورات ستجريها البحرية الإيرانية في المحيط الهندي وبحر عمان.
تصريحات بالغة الأهمية إن من حيث مناسبتها، التي صادفت ما يعرف بأسبوع التعبئة في إيران، أو مكانها، أمام نحو 50 ألفاً من قوات التعبئة تابعين لفرقة تعرف بـ«فدائيي العالم الإسلامي الثوريين»، أو توقيتها، في أعقاب خطاب المرشد الذي توعد فيه بالرد على «كل اعتداء وأي تهديد».
مصادر قريبة من دوائر الحرس تقول إن «الغرض من هذا الكلام كله التأكيد أن خطاب المرشد أصبح مبدأً دفاعياً، ترجمة عملية لمنظومة العقيدة الدفاعية التي خطّ أطرها». وتضيف «لعل الأهم بين هذه التصريحات كلام سليماني، ومفاده: إن كنتم تعتقدون أنكم تواجهون إيران واحدة فأنتم مخطئون، هناك إيرانات على امتداد المنطقة كلها»، مشيرة إلى أن «المعنى الذي يستبطنه هذا الكلام هو: إذا كان لديكم أطلسي الحكومات، فلدينا أطلسي الشعوب الذي سيواجهكم في كل مكان». والمقصود بأطلسي الشعوب هنا، بحسب هذه المصادر، المحور التقليدي الممتد من طهران إلى غزة مروراً بالعراق وسوريا ولبنان وقد أضيفت إليه بالحد الأدنى مصر وليبيا والبحرين واليمن. وهذا المحور، بحسب «المبدأ الدفاعي الجديد» سيردّ على كل اعتداء يستهدف أياً من أطرافه، على جميع أجزاء الحلف المقابل.

تركيا: الحكاية القديمة نفسها

بات محسوماً أن تركيا تشكل القاعدة اللوجستية للحراك المعادي لسوريا ورأس الحربة في أي هجوم مزعوم او حصار قيد التطبيق، بعدما أعلن العراق ولبنان أنهما لن يأتيا بأي عمل مناهض لدمشق، مع توقعات بأن الأردن، وإن وافق على العقوبات المفروضة عربياً على سوريا، لا طاقة له بتطبيقها.
ولعل الاتصال الأخير والأهم الذي جرى بين الحلف المؤيد لسوريا وبين أنقرة هو تلك الزيارة التي اجراها رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الإيراني، علاء الدين بروجردي للعاصمة التركية قبل نحو اسبوعين. مصادر وثيقة الاطلاع على مجريات هذه الزيارة تفيد بأن «بروجردي أبلغ الأتراك رسالة شفافة وبالغة الجفاف: توقفوا عن ممارسة ألاعيبكم في سوريا، وقطعاً لا تقربوا إيران. لقد أخطأتم خطأً جسيماً في استضافتكم للدرع الصاروخية الأميركية. كونوا على بينة انه، في حال حصول أي شيء في المنطقة، سنبدأ بقصف القواعد الموجودة على أراضيكم، وفي مقدمتها قاعدة انجرليك. هنا لا مكان للصداقة معكم، وموقف لا تمليه الصداقة مع الآخرين، إنها قضية أمن قومي إيراني، ودفاع عن سوريا وفلسطين والمقاومة، فضلاً عن أنها جزء من عقيدتنا الدينية والسياسية، وليست تكتيكاً من أي نوع كان».

العراق عمق استراتيجي

وفي السياق، تبدو زيارة رئيس أركان الجيش العراقي بابكر زيباري إلى طهران منتصف تشرين الثاني الجاري بالغة الأهمية. هي تكرس عملياً مخاوف الولايات المتحدة من مرحلة ما بعد انسحابها من العراق، تلك المخاوف التي يحمّلها المعنيون مسؤولية الحراك الأميركي المستميت في المنطقة، وخاصة حيال الملف السوري.
ولعل أهم ما في هذه الزيارة، على ما تفيد معلومات متقاطعة من بغداد وطهران، التوافق الذي حصل خلالها على أن «العراق سيتحول مع الزمن إلى حليف استراتيجي لإيران. البلدان يتقاربان أكثر فأكثر مع مرور الأيام، والهدف أن يشكلا في نهاية المطاف وحدة دفاعية ضد أي معتدٍ. غير أن تفاهماً قد حصل على انه إذا اندلعت في المنطقة حرب كبيرة أو منازلة كبرى، فإن العراق سيكون عمقاً استراتيجياً ولوجستياً لمحور الممانعة».
البند الثاني من حيث الأهمية، على ما تفيد المعلومات نفسها، هو تأكيد زيباري «استعداد بغداد لدراسة أي نوع من التعاون العسكري، سواء على مستوى التسليح أو التدريب أو المناورات المشتركة بين البلدين، في إطار انفتاح العراق على العالم»، مع التشديد على «إمكانية أن تكون إيران الجهة التي يستعين بها العراق لتطوير قواته المسلحة وتعزيز قواه العسكرية على قاعدة أنتم جيراننا ولكم الأولوية».
وحرص زيباري، في خلال زيارته تلك، على طمأنة طهران إلى أنه «لن تكون هناك قواعد عسكرية أميركية في شمال العراق»، موضحاً أن القاعدة المعمول بها في بلاد الرافدين هي أن «ما يصح في المركز يصح في الأقاليم». هي عملياً رسالة تطمين من بغداد واربيل، نظراً إلى الصلات القوية التي تربط زيباري برئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني. وهي رسالة تكتسي أهمية كبرى إذا ما علمنا أن هذا الأخير، وفي خلال مراحل الضغوط الأميركية على بغداد لإبقاء عدد من قواتها المسلحة في العراق بعد ٣١ كانون الثاني المقبل، قد عرض على الأميركيين الانسحاب إلى شمال العراق، ما كان أحد العوامل الرئيسية لدعوته إلى زيارة طهران حيث أبلغه المرشد علي خامنئي بنفسه، ما معناه أن هناك خطين احمرين لن تسمح إيران بتجاوزهما: وحدة العراق والانسحاب الكامل للاحتلال.
وإلى جانب بحث بعض القضايا المشتركة مثل ملف الحدود، تعهد زيباري، في تلك الزيارة، بأن العراق، وضمنه كردستان، «لن يسمح إطلاقاً من الآن فصاعداً بأن تكون أراضيه منطلقاً لشن عمليات إرهابية ضد إيران، أياً كانت الجهة التي تنفذها، وخاصة حزب العمال الكردستاني الإيراني».



«التحالف» العراقي يؤلّف لجنة لمساعدة دمشق

لا حديث في الأروقة السياسية في بغداد إلا عن سوريا. لا الانسحاب ولا الأقاليم ولا التفجيرات ولا حتى الوضع الخدمي المزري يأتي على بال أحد. وحدها الأزمة السورية تشغل البال. الكل، والحديث هنا عن الساسة المتحالفين مع طهران ودمشق، يريد المساعدة، لكنهم لا يعرفون كيف. «لم يعرفوا بعد حجمهم في المنطقة ومدى قدرتهم على التأثير»، يقول متابع مقيم في عاصمة الرشيد. وضع دفع التحالف الوطني، الذي يضم كتلتي «الائتلاف الوطني» و«دولة القانون» إلى تأليف لجنة رفيعة المستوى يوم الجمعة الماضي للبحث عن الأدوات والطرق التي يمكن من خلالها مساعدة نظام الرئيس بشار الأسد. وفي السياق، قال مسؤول اعلام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب، عباس العامري، ان «لجنة العلاقات تلك عقدت أمس اجتماعاً مع رئيس البرلمان اسامة النجيفي لدراسة مجريات الاحداث في سوريا». واضاف أن «الاجتماع تمخض عن تأليف لجنة تخصصية مختصرة لعقد اجتماعات منفردة مع رئيس الجمهورية والوزراء والبرلمان لدراسة الاحداث والخروج بموقف موحد للعراق تجاه ما يجري في سوريا».