صوت الميدان هو الطاغي على المشهد السوري إلى حين. صحيحٌ أنّ الأمر لا يبدو جديداً على امتداد الحرب، لكنّه في هذه المرحلة يبدو أشبه بنعي لكل الجهود السياسيّة التي دخلَت في غيبوبة فعليّة منذ انهيار تفاهم «لافروف – كيري». وفي تلميحٍ إلى هذه الحقيقة، جاء كلام المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا أمس، حول عدم استمرار روسيا والولايات المتحدة في ترؤس «قوة مهام منفصلة كانت معنية بوقف الأعمال القتالية». وقال دي ميستورا إنّ «وقف الأعمال القتالية ليس أمراً أساسياً الآن في الحقيقة، لكن يجب إبقاؤه حياً». أمّا على الأرض، فيبدو أنّ كلّ الدروب باتت تؤدّي إلى مدينة الباب (ريف حلب الشرقي). أهميّة السباق نحو المنطقة التي باتت تُمثّل المعقل الحقيقي الوحيد لتنظيم «داعش» في محافظة حلب لا تنبعُ من رمزيّة هذا التفصيل فحسب، بل تتعداه إلى أهميّة استراتيجيّة اكتسبتها المنطقة بفعل متغيّرات الشمال السوري خلال العام الحالي على وجه الخصوص. الجيش السوري كان قد وضع المدينة على خارطة «المعارك المقترحة» منذ أواخر كانون الثاني الماضي. كان تحرير المدينة حينها جزءاً من خطّة مُقترحةٍ لخنق المجموعات المسلحة المتمركزة في الأحياء الشرقية لحلب («الأخبار»، العدد 2799)، قبل أن تُسهم جملة متغيّرات سياسيّة وميدانيّة في تعديل البوصلة. وحتى وقت قريب، بقيت المدينة خارج حسابات المرحلة سوريّاً مع منح الأولويّة لمعارك الأحياء داخل مدينة حلب.
استقدام فصيل «صقور الصحراء» إلى عاصمة الشمال
«قوات سوريا الديمقراطيّة» بدورها كانت قد وضعت نصب عينيها الانطلاق نحو الباب إبّان نجاحها في طرد تنظيم «داعش» من مدينة منبج (ريف حلب الشرقي) في آب الماضي، قبل أن يفرملها «فيتو» أميركي كرمى لعيون أنقرة. وقتٌ قصير بعدها كان كافياً ليدشّن الغزو التركي عمليّة «درع الفرات»، ولتصلَ خلال أقلّ من شهرين إلى تخوم منطقة الباب. ورغم أنّ معطيات كثيرة كانت تؤشّر إلى أنّ تفاهمات روسيّة ــ تركيّة غير معلنة كانت قد أبقت المدينة خارج نطاق «الدرع»، غيرَ أنّ معطيات الأيام الأخيرة كشفت تغيّر قواعد اللعبة، ليصبحَ انطلاق القوات الغازية مع مجموعات «درع الفرات» نحو الباب مسألة وقت على الأرجح. التصريحات التركيّة في هذا الخصوص تكثّفت خلال الأيّام الماضية، وكان آخرُها ما جاء أمس على لسان الرئيس رجب طيب أردوغان الذي حرصّ على الإشارة إلى وجود تنسيق بين بلاده والولايات المتحدة في هذا الشأن. «سيتركون (داعش) الباب أيضاً، ومن ثم سنتوجه إلى منبج ومدينة الرقة، في الأمس تحدثت (هاتفياً) مطولاً مع السيد أوباما، وقلت له إننا سنتخذ خطوات في هذا الإطار»، قال أردوغان. وبالتناغم مع وتيرة التصريحات، كثّفت وسائل الإعلام التركيّة الحديث عن أهمية الباب، إلى حدّ وصفها بأنّها «مفتاح مستقبل تركيا في سوريا»، على حدّ تعبير صحيفة «حرييت». في الوقت نفسه، واصلت قوّات «درع الفرات» اقترابها من الباب، حيث سيطرت أمس على عدد من القرى القريبة منها، مثل دوير الهوى وعبلة (شمال غرب الباب)، وتل علي (شمال شرق الباب). وسط هذه المعمعة، يبدو أن الجيش السوري وحلفاءه قد حسموا أمرهم بشكل قطعي في تدشين عمليّات نحو المدينة السوريّة عبر محاور عدّة، على ألّا تؤثّر العمليات المُرتقبة على مسار معارك الأحياء في حلب، والتي باتت تحظى بأولويّة قصوى، لا لدى دمشق فحسب، بل لدى موسكو أيضاً. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى حرص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمس على القول إنّه «لا خيار أمام روسيا سوى تطهير وكر الإرهابيين في مدينة حلب، على الرغم من حقيقة وجود المدنيين في المدينة أيضاً». حرصُ دمشق وحلفائها على عدم تعليق معركة الأحياء تمّت معالجته باستقدام فصيل «صقور الصحراء» (الذي كان رأس حربة في معارك ريف اللاذقية الشمالي) إلى عاصمة الشمال ليكون جزءاً أساسيّاً من العمليات الوشيكة. وتفيد المعطيات المتوافرة بأنّ مدينة حلب باتت قاب قوسين من التحوّل إلى ما يشبه غرفة عمليات كبرى، تشهد في وقت متزامن تدشين العمليات نحو الباب، إضافة إلى عمليّات في محيط مطار حلب الدولي، ومن دون إغفال جبهات الجنوب الغربي أو عمليّات الأحياء الشرقيّة. وخلال الأسبوع الأخير انضّم «الصقور» إلى مناطق التحشيد في السفيرة (ريف حلب الجنوبي الشرقي)، فيما استكملَت قواتٌ تابعةٌ للحرس الجمهوري تمركزها على مقربة من المدينة الصناعية في الشيخ نجّار (البوابة الشمالية الشرقية لحلب). ومن المتوقّع أن تنضمّ وحدات أخرى تباعاً إلى صفوف القوّات المُستنفَرة، ومن بينها وحدات اقتحامية يقودها العقيد سهيل الحسن كانت قد لعبت دوراً أساسيّاً في فك حصار مطار كويرس العسكري قبل عام كامل («الأخبار»، العدد 2738). ومن المنتظر أن يلعب المطار دوراً أساسيّاً في معارك تحرير الباب، حيث يتيح موقعه انطلاق القوّات شرقاً في اتجاه دير حافر، وشمالاً نحو الباب، وبالتزامن مع تحرّك يأخذ شكل رأس سهم منطلق من الشيخ نجّار نحو الشمال الشرقي. ولا تقتصر أهداف التحرك نحو الباب عبر محاور عدّة على محاولة شل حركة «داعش» وتشتيت قواته فحسب، بل تشتمل أيضاً على استباق أي تحرّك لـ«درع الفرات» من الشمال نحو الجنوب الشرقي (وهو هدف تحققه انطلاقة الجيش السوري عبر محور المدينة الصناعية). وتلحظ الخطط العسكريّة السوريّة في هذا الإطار أنّ أيّ تقدّم لقوات الغزو التركي أو مجموعاتها الرديفة المنخرطة في «درع الفرات» نحو خطوط التماس مع الجيش السوري سيحوّلها إلى هدف أساسي من أهداف الجيش، في تكرار لما حدث قبل أيّام في «تل المضيق» التي شهدت تدخّلاً للطائرات السورية، بسبب اقتراب مجموعات «الدرع» من خطوط التماس مع مواقع الجيش السوري في حردتنين.
معارك «درع الفرات» و«قسد» مستمرّة

في الأثناء، تستمر المواجهات بين مجموعات «درع الفرات» مدعومة بقوّات الغزو التركي من جهة، و«قوّات سوريا الديمقراطيّة» من جهة أخرى. وقالت مصادر ميدانيّة لـ«الأخبار» إنّ «المعارك لم تهدأ على مختلف خطوط الاشتباك، من دون أن تسفرَ عن أي تغيّر في خطوط السيطرة». وأكدت مصادر من «قسد» أنّ «هناك محاولات لفتح جبهات عدّة ضدّنا سعياً لتشتيت قوّاتنا، والتشويش عليها، لكنّنا لم نتراجع قيد أنملة، ولن نتراجعَ حتماً». وترافق ذلك مع اعتداءات تركيّة مستمرّة على أراض زراعيّة في قرية سوركة (شمال عفرين). وقالت مصادر محليّة لـ«الأخبار» إنّ «الأتراك قاموا بقطع الأشجار على امتداد مساحات كبيرة، واستقدموا جرّافات ومدرّعات تمهيداً لتشييد جدار عازل». ووفقاً للمصادر، فقد «تجمّع أهالي القرى المحيطة في اعتصام أمام هذه الأعمال، الأمر الذي واجهته القوّات التركيّة بإطلاق الغازات المسيّلة للدموع والرصاص الحي، ما أدى إلى سقوط عشرة مصابين، من بينهم ثلاثة أصيبوا بالرصاص الحي».




هكذا سيطرت «قسد» على تل المضيق

السيطرة على تل المضيق جاءت بعد «عمليّة نوعيّة». هذا ما أكّده مصدر من «قوّات سوريا الديمقراطيّة» لـ«الأخبار». المصدر أوضح أنّ «مجموعاتٍ صغيرة كانت قد تسلّلت إلى المنطقة وتمركزت على أطرافها، قبل أن تتقدم نحوها بالتزامن مع انسحاب إرهابيّي داعش منها تمهيداً لتسليمها لقوّات الغزو التركي وأدواته». وقال المصدر إنّ «التحرّك تمّ بعد أن تسرّبت إلينا تفاصيل التسليم والتسلم اللذين كان متّفقاً عليهما، وموعد تنفيذهما. وقد فوجئ الطرفان بتقدّم مجموعاتنا ونجاحها في دخول المنطقة والتثبيت فيها بعد اشتباكات عنيفة».