تتضافر جهود عقول كثيرة ومتنوعة الاختصاص؛ خبراء إعلام واجتماع واقتصاد وسينما وسياسة وغيره لصياغة مفهوم الحلم الأميركي وتسويقه في العالم: تأتي من أية دولة أوروبية أو دول أميركا اللاتينية أو شعوب العالم الثالث لتحصل على فرصة عادلة ومتساوية لتحقيق النجاح في حياتك وتسلّق السلم إلى أعلى المراتب. تبدأ عاملاً يجمع نفايات المطبخ أو يغسل الصحون، ويمكن أن تمسي بغمضة عين صاحب المطعم. أنتجت عشرات الأفلام السينمائية لخدمة هذا الهدف. ما عليك سوى تخيلهم على أطراف السفن يقتربون مما يسمونه تمثال الحرية فتنشرح صدورهم، وما إن تطأ أقدامهم "أرض الحرية" حتى تفتح لهم أبواب الجنة. تخيل الآن شاباً في الثالثة والثلاثين من عمره يصل خالي الوفاض إلى مطار دالاس ليبدأ التواصل مع وسائل الإعلام ومراكز الدراسات للتنظير بخصوص الشرق الأوسط، قبل أن يسمعه المرشح الرئاسي صدفة على إحدى الإذاعات ويُفتن بأفكاره فيلقاه على عجل ويعيّنه مستشاراً رئيسياً له، ولمَ لا تكمل السينما الأميركية حبكتها حتى النهاية، فيعين وزيراً مثلاً؟ هكذا يصبح اللبناني المهاجر وزيراً لخارجية أميركا، مثلاً، فيزداد التشويق و"سحر الحلم" ومبيعات الفيلم. ففي هذه المعمعة لن يقول أحد إنه رأى في المشهد العشرات يتدافعون، لكنه لم يفهم لماذا تابعت الكاميرا شخصاً واحداً فقط وماذا حصل بكل الآخرين. ولن يبالي أحد بالتفاصيل فيلتفت إلى ما كان وليد فارس يفعله في لبنان قبل سقوط المشروع الإسرائيلي في البلد، ولن ينتبه أحد إلى ترداده باللغة الإنكليزية كل ما تود الإدارة الأميركية سماعه من الكائن العربي. ولا شك في أن الإدارات المتخمة بالغباء لا تعلم أن هذا المنظّر ينتمي إلى معسكر الفينيقيين الذين يعدّون العروبة عاراً كبيراً، ووصفهم بالعربيّ شتيمة. ففي الواقع، كان هناك آلاف العرب المهاجرين الذين يكدّون في العمل في جامعات الولايات المتحدة ومراكز الدراسات وغيرها، لكن غالبيتهم يلتزمون قناعات تعارض سياسة الولايات المتحدة الخارجية التي تدعم الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وتزود الجيش الإسرائيلي بالذخيرة اللازمة لضرب البنية التحتية اللبنانية وارتكاب مئات المجازر وتهديم العراق والتحالف مع الفكر السعودي الوهابي التكفيري وباقي الارتكابات الأميركية العروفة. إلا أن شخصاً واحداً خرج من الصف العربيّ المفترض للقول إن ما تفعله أميركا جيد جداً، لكنه لا يكفي، ولا بدّ من فعل المزيد. أصدقاؤه السابقون في القوات اللبنانية لاذوا بالصمت بعيداً عن الأنظار ينشدون غفران خطاياهم، بعضهم التحق بالشركات الأمنية التي غزت العراق، وبعضهم وجد عملاً في النطاق الضيق الذي يتقنه. أما هو، فبقي التنظير عن كيف تربّي الشعوب العربية شغله الشاغل عن كل شيء، مدغدغاً مشاعر "فوكس نيوز".
فوز القوات بحقيبة سيادية في واشنطن أسهل من حصولها عليها في بيروت
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن وسائل إعلام أميركية عديدة ستسر باستضافة أي شخص بمجرد أن يقول لها اللوبي الصهيوني إن هذا رجلنا ونود إعلاء شأنه، أو بمجرد أن تكتشف الإدارة الأميركية أنه يردد ما تود قوله دون زيادة أو نقصان مع توفير تكلفة الترجمة. لكن رغم مزايدة وليد فارس، لم تلتفت ماكينتا الرئيس الأميركي السابق جورج بوش والمرشح ميت رومني بجدية إليه، ولم يوظف بالتالي في أروقة الحزب الجمهوري. إلا أن غياب الجمهوريين المتحمسين للعمل إلى جانب ترامب قبل انتخابه رئيساً على الملفات الخارجية لخشيتهم على سمعتهم أفسح المجال الواسع أمام فارس. وهكذا، يمكن في الفيلم تخيل المسؤول السابق عن تثقيف المقاتلين في ميليشيا القوات اللبنانية بشأن الفيدرالية وتقسيم الشعب الواحد بحسب الطائفة... يثقف الرئيس الأميركي الجديد. بعد رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، ها هو ترامب يتثقف على يدي فارس. ولا شك في أن تأثير فارس القوي بالقائد يفترض أن يثير خوف خصوم ترامب، فيتجنّبوا الصعود في طوافات مثلاً أو المبيت مع زوجاتهم وخادماتهم وأطفالهم وكلابهم في قصر ناءٍ!وكان فارس قد بدأ حركته السياسية في لبنان بوصفه سياسياً وكاتباً مقرباً من القوات اللبنانية يهتم بقضايا مسيحيي المشرق، وعلى هذا الأساس اشترك مع أحد أصدقائه في إصدار مطبوعة تحمل اسم "صوت المشرق"، قبل أن يؤسس الحزب الديمقراطي الاشتراكي المسيحي. ثم أيد رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في انقلابَيه السريعين على أمين الجميّل وإيلي حبيقة، فعُيِّن عضواً في مجلس قيادة القوات، وكان من أبرز منظري جعجع عن الفيدرالية و"الخصوصية المسيحية". ومع اندلاع الحرب بين الجيش والقوات، انضم فارس إلى داني شمعون وجبران تويني في الخروج عن طاعة جعجع، مؤيداً العماد ميشال عون. وبقي مع عون حتى سقوط قصر بعبدا يوم 13 تشرين الأول 1990. وتقول المصادر إن الاستخبارات السورية كانت تبحث عنه، ففرّ من طريق إسرائيل إلى الولايات المتحدة. وهو بالمناسبة متزوج أميركية، ولم يزر لبنان أبداً منذ عام 1990، لكنه كان من الناشطين من أجل إقرار القرار 1559. وكان لتوظيف فارس من قبل ماكينة ترامب ارتدادات سلبية ممن يعيبون عليه انخراطه يوماً في ميليشيا مسلحة كانت تقتل على الهوية وتخطف وتغتال، إضافة إلى معاداته المعلنة والمطلقة بحسبهم دوماً للمسلمين. وما سبق أحرج ميت رومني، لكنه لم يمثل أية مشكلة لترامب الذي يسرّه دائماً الاستعانة بشخص إضافي متهم بنشر الحقد والعنصرية. واللافت أن الإعلام اللبناني يهلل لإثبات اللبنانيين "نبوغهم" مجدداً، فيما الأكيد أن ما من علاقة من قريب أو بعيد للبن الماعز اللبناني ولا لكركة العرق البلدي بتعيين فارس مستشاراً لترامب؛ إنما الفضل يعود للوبي الصهيوني. ولا بدّ دائماً من التذكير أن الرجل أمضى فترة من عمره في فلسطين المحتلة، حيث عمل بوصفه باحثاً أيضاً والتعامل معه يفترض أن يكون دائماً بوصفه إسرائيلياً أو عميلاً للإسرائيليين في أقل تقدير، لا بطلاً قومياً كما يوحي البعض. وفارس ينافس الرئيس أمين الجميّل في كتابة الكتب بحكم غزارة قريحته. لكن أبرز كتبه هو السياسة الإسرائيلية البديلة في لبنان الذي هو عبارة عن "تطوير" لـ"دراسة" قدّمها إلى الحكومة الإسرائيلية، خريف عام 1996 (بعد أقل من 6 أشهر على ارتكاب مجزرة قانا). وفيها تصوّر لإدارة العدو للجنوب اللبناني، لا يحلم أي صهيوني متطرّف في تخيله. ولا شك في أن استعانته بجواز سفره الدبلوماسي مستقبلاً لزيارة بلدته البترونية وزيارة الفعاليات الرسمية سيمثل مشكلة كبيرة وسابقة يمكن أن تدفع الاستخبارات الاسرائيلية إلى الاتصال بعدة سفارات لتوظيف كل عملاء لحد الفارين إلى إسرائيل ضمن طواقم البعثات الدبلوماسية في لبنان.
تعيين فارس مستشاراً رسمياً لترامب خبر عادي في ظل اكتظاظ الإدارات الأميركية بالإسرائيليين. عادة يكون المستشار إسرائيلياً من أصل ألماني أو إيطالي أو أميركي أو إثيوبي؛ هذه المرة هو إسرائيلي من أصل لبناني. الأهم هنا هو استفادة المستشار الحالي لرئيس حزب القوات العميد المتقاعد وهبي قاطيشا من تجربة سلفه، فيهاجر على عجل إلى الولايات المتحدة ويخبر شبكة فوكس بما يراه ويسمعه، علّهم يملأون به فراغ فارس لديهم ليسمعه ترامب لاحقاً فيرى فيه وزير خارجيته المنتظر. فالواضح أن فوز القوات بحقيبة سيادية في الحكومة الأميركية أسهل بكثير من حصولها على حقيبة سيادية في الحكومة اللبنانية.