حملت أنقرة كرة النار وزحفت بها نحو مدينة جرابلس السورية، معلنة انطلاق عملية «درع الفرات» في 24 آب الماضي. تدحرجت «الكرة» سريعاً بعد قضم عشرات القرى وصولاً نحو تخوم مدينة الباب الاستراتيجية في الثالث عشر من الشهر الجاري.
بين التاريخين، كرّست الكواليس والتصريحات العلنية محطة تبادل رسائل سياسية وعسكرية بين الطرف التركي من جهة ودمشق وحلفائها من جهة أخرى.
الغارة السورية فجر أمس التي قتلت ثلاثة جنود أتراك وأصابت عشرة منهم بجروح (حسب البيان التركي) ليست مجرد صدام موضعي تستطيع أنقرة الالتفاف عليه ورمي كرة اللهب نحو «الباب»، بل هي تظهير لحرب الإرادات الجارية في الشمال السوري. الغارة واستهدافها لجنود أتراك (للأصيل لا الوكيل)، لا يدعان مجالاً أمام أنقرة للخطأ في الحسابات أو في فهم الرسالة: «دخول الباب ممنوع».
تركيا بدورها بدت مصمّمة على «الزحف»، وهي كرّرت مراراً عزمها على السيطرة على المدينة. الرئيس رجب طيب أردوغان كان واضحاً في التعبير عن نية بلاده، في تصريح في الثامن من أيلول، بأن «الهدف المقبل» للعمليات هو مدينة الباب، ثم «الهدف الثاني هو مدينة منبج». قرن أهدافه بالوصول إلى الرقة ــ «قلب الارهاب» ــ بعيداً عن مدينة حلب، بهدف طمأنة الروسي والسوري.
رغم ذلك، كانت الرسائل المباشرة وغير المباشرة من دمشق وموسكو وطهران تصل إلى أنقرة وتحذّر من أي تفكير في اقتحام المدينة.
إحدى الرسائل المباشرة جاءت إثر قصف جويّ تركي لقرية حساجك الواقعة تحت سيطرة «قوات سوريا الديموقراطية» وسقوط عدد من المدنيين فيها. يومها (20 تشرين الأول) حذّر الجيش السوري في بيان «الطائرات التركية في حال تكرار الاختراقات»، ليتبع ذلك بيان آخر بعد يومين يُحمّل أنقرة «المسؤولية الكاملة عن التداعيات الخطيرة التي قد تترتب على أمن المنطقة»، على خلفية دخول قوات ومدرعات تركية إلى الأراضي السورية.
التدحرج في رسائل دمشق وحلفائها جاء بعد أيام حين أغارت مروحية سورية على نقطة لـ«الجيش الحر» المنضوي في «درع الفرات» في قرية تل جيجان (ريف حلب الشمالي) ما أدى الى مقتل 3 عناصر منه.
هذه الغارة لحقها (في 24 تشرين الأول) تحذير عالي النبرة من «قائد العمليات الميدانية لقوات الحلفاء للجيش السوري» إلى أنقرة، بعدم الاقتراب من نقاط الدفاع في ريف حلب الشمالي والشرقي، متوعّداً بردّ «قوي وحازم في حال تخطّي الخطوط الحمراء».

تعلم أنقرة أنّ الاستهداف السوري لقواتها لا يجري إلا برضى روسي


بعد يومين انطلقت «غزوة أبو عمر سراقب» في حلب (28 تشرين الأول)، واتضح أن سقف أردوغان العالي عزّزه رهانه على نجاح هجوم حلب، إذ يعني ذلك وقوع دمشق وحلفائها في مستنقع لا يحسدون عليه في حلب، لتُصبح مسألة «الباب» هامشية نسبة إلى أولوياتهم، وتُعبّد الطريق تركياً نحو «الباب».
التصريحات التركيّة في هذا الخصوص تكثّفت في تلك الفترة عن محورية السيطرة على المدينة، ومنها ما قاله أردوغان في يوم انطلاق «معركة حلب» الأخيرة، بأنّ «داعش سيتركون الباب أيضاً، ومن ثم سنتوجه إلى منبج ومدينة الرقة. في الأمس تحدثت (هاتفياً) مطولاً مع السيد (الرئيس الأميركي باراك) أوباما، وقلت له إننا سنتخذ خطوات في هذا الإطار».
نجت حلب من «الغزوة» الكبرى، وأصبح اختراق المدينة اليوم ضرب من الجنون العسكري، وعلى ضوء ذلك باتت أنقرة أمام منعطف يتمحور حول اتخاذ قرار بدخول «الباب»، وقواتها تراوح مكانها على تخوم المدينة.
ففي حساباتها، الطرفان الروسي والسوري يتجنبان الصدام، وهي أيضاً لا تريد ذلك. وقد تقدّمت في السابق ميدانياً بسبب رهانها على أنّ الطرف الآخر لن يبادر إلى الردّ، خاصة أنّها اعتبرت أنها قرنت تحركاتها برسائل تطمين بأنّها متوجهة في النهاية نحو الرقة، إذ بعد الغارات المروحية على تل جيجان، واصلت أنقرة تنفيذ مخططها نتيجة إدراكها أن لا صدام مباشراً مع الروس أو السوريين.
في ضوء ذلك، باتت الكرة في ملعب دمشق، ومقابل فرض تركيا للعبة الأمر الواقع، بادر الجيش السوري إلى توجيه ضربة أمس في محيط الباب. وهو يُظهر لأنقرة أنه يستطيع تثبيت واقع ميداني وخطوط حمراء، خاصة أن الأخيرة تعلم أن استهدافاً كهذا لا يجري إلا برضى روسي.
القيادة التركية اليوم أمام منعطف جديد أخطر ممّا سبق، واتخاذ قرار لم يعد مجرّد نزهة، بل أي مبادرة ستتحدد إثرها مسارات عديدة. مساء أمس، علّق رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم على الغارة قائلاً «مثل هذه الهجمات لن تضعف أبداً من إصرارنا على مكافحة الإرهاب...»، متعهداً بأنّ الهجوم «سيتم الرد عليه». هل سيتُرجم ردّه الكلامي عملياً بما يستدرج صداماً مع الجيش السوري، خصوصاً إن بقيَ الاصرار على التقدم نحو «الباب»، أم ستعمد أنقرة إلى خيار الانكفاء أو اللجوء إلى القنوات الدبلوماسية وانتظار تبدّل ما في المشهد العام؟ وهي تعلم أنّ قرار الاشتباك ليس مع دمشق فقط، وما حدث عقب الغارات الأميركية على دير الزور والتحذير الروسي لواشنطن من عواقب إقدامها على استهداف مواقع الجيش السوري الذي «ستعتبره تهديداً لأفراد قواتها الموجودين في عدد كبير من تلك النقاط» ثابت في ذاكرة المسؤولين في قصر شنقايا.
في النتيجة، ما جرى ثبّت حقيقة قائمة أنّ «الباب» ليست لقمة سائغة للأتراك والمتعاونين معهم، والأيام المقبلة ستكشف ما تختزنه الأطراف المتصارعة من أوراق وتقديرات.




«حرييت»: دمشق تخطط للهجوم

تقدّم الجيش السوري بمؤازرة من «وحدات الحماية العربية ــ الكردية» في الريف الغربي لمدينة الباب انطلاقاً من محور كلية المشاة. وتمكنت القوات المهاجمة من السيطرة على قرى بابنس، حليصة، تل شعير، الشيخ كيف، جوبة، والنيربية التي تبعد حوالى 12 كيلومتراً غرب مدينة الباب.
ويأتي التقدم المشترك للجيش و«وحدات الحماية العربية ــ الكردية»، المكوّنة من عدد من الفصائل التي تضم مقاتلين عرباً وأكراداً من الريف الشمالي لمدينة حلب، ليقطع الطريق على القوات التركية التي تقود «درع الفرات» أمام استهداف القوات المتقدمة من الغرب جواً، والتي سبق أن اشتبكت معها في محيط سد الشهباء. كذلك فإن محور التقدم الحالي يبعد قرابة 6 كيلومترات إلى الجنوب من مناطق سيطرة «درع الفرات»، ويترك شريطاً فاصلاً من القرى الخاضعة لسيطرة «داعش».
وبالتوازي، نقلت صحيفة «حرييت» التركية عن مصدر أمني تركي ما مفاده أن القوات الحكومية السورية تخطط لاستعادة مدينة الباب، موضحاً أنها «ألقت خلال الأسبوع الماضي مناشير تحذّر المدنيين من أن عملية عسكرية قريبة سوف تبدأ صوب المدينة». وأضافت الصحيفة أن سلاح الجو التركي كان قد أعاد طلعاته الجوية فوق الشمال السوري في 11 تشرين الثاني، بعد 3 أسابيع من التوقف، وفق اتفاقية بين قائدي الجيشين التركي والروسي، خلال اجتماعهما في موسكو. ولفتت إلى أنه رغم الاتفاقية، بقيت الطائرات التركية منذ 12 تشرين الثاني تتعرض من وقت لآخر لرصد وإقفال من صواريخ أنظمة الدفاع الجوي السوري.