نال الرئيس المكلّف سعد الحريري الجزء الداخلي والشخصي المبتغى من دعمه ترشيح العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية. صار عون رئيساً، وضمن الحريري عودته إلى السلطة من بوابة رئاسة الحكومة، مجمّداً إلى حدٍّ كبير حالة الانهيار التي استفحلت في تيار المستقبل، مُذ «أُقيلت» حكومته أثناء اجتماعه مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، مطلع عام 2011.
ولم يعد سرّاً أن الحريري، الغارق في أزماته المالية، وانتفاء منفعة الخطاب المذهبي ومعزوفة التحشيد على دماء الرئيس الراحل رفيق الحريري والانقلاب الهائل في موازين القوى في المنطقة، لم يكن ليعود إلى جنّة السلطة، لولا الخيار «المرّ»، بدعم المرشّح الذي أوقف حزب الله الانتخابات الرئاسية لأجله عامين ونصف عام.
ومع أن للحريري تبريره أمام شارعه لدعمه عون، وقد لخّصه تسجيل صوتي لأحد مسؤولي المستقبل عشيّة انتخاب عون بوضوح أكثر من تبريرات الحريري نفسه، وفيه سردٌ لواقع التيار في لبنان والهزائم التي يُمنى بها حلفاء السعودية في المنطقة من الموصل إلى حلب، إلّا أن الأنباء الآتية من الشارع لا تُنبئ بأنه اقتنع بالخيار الرئاسي، لكنّه لا يزال يسير مع الحريري، ولو على مضض، بديلاً من الوزير أشرف ريفي، أو أي خيار آخر.
ولكي يزيد إحراج رئيس المستقبل أمام شارعه، وهو الذي لم يستطع حتى الآن تقديم تشكيلة وزارية تدعم نظريته في العودة العملية إلى السلطة، لا يوفّر ثنائي التيار الوطني الحرّ ــ حزب القوات اللبنانية فرصة، للتذكير بعمق التحالف الذي يجمعهما والاتفاق بينهما، والذي لم يكن الحريري في أجوائه عندما سار بانتخاب عون. ويحرص ثنائي رئيس القوات سمير جعجع والوزير جبران باسيل، على التذكير بأن «شيئاً كبيراً قد تحوّل في ميزان القوى في لبنان»، لجهة قيام عصب مسيحي، ستكون أولى مطالباته وترجمته العملية، بإعادة الصلاحيات إلى الدور المسيحي السياسي في النظام.

الحريري لم يكن في أجواء اتفاق التيار الوطني الحر ــ القوات اللبنانية


ولا يمكن الفصل بين بروز العصب الطائفي المسيحي من جديد، والعصبيات التي تستفحل في المنطقة، وموازين القوى الجديدة، التي من أولى نتائجها انكفاء الدور السعودي عن الساحات الإقليمية، إلى حرب اليمن والداخل في المملكة.
لم يكن ينقص المشهد في لبنان، سوى ثنائية مسيحية، لتكتمل الثنائيات في الطوائف، مع التحالف الوثيق بين حزب الله وحركة أمل، وشبه الاتفاق الجديد ــ القديم بين النائبين وليد جنبلاط وطلال أرسلان بالحفاظ على «وحدة الطائفة». وإذا كانت الثنائية المسيحية، تنتظر الانتخابات النيابية المقبلة لتترجم تفوّقها الشعبي على الآخرين، فإن المطالبة بالدور السياسي المسيحي في النّظام اللبناني، (التي بدأت الآن تظهر مفاعيلها من خلال الإصرار على توزيع جديد للحصص في الحكومة)، تؤرق الحريري وغيره من الساسة «السّنة»، لأنها ستكون على حساب «الدور السّني»، الذي «انتفخ» في النظام عبر صلاحيات رئاسة الحكومة مع اتفاق الطائف، بفعل التأثير السعودي الذي انتجته معادلة السعودية ــ سوريا، بعد حرب الخليج الأولى، على حساب الدور المسيحي في النظام اللبناني القديم.
هو خطاب «مظلومية» من نوعٍ جديد، ينتظر الحريري وشارعه في المرحلة الآتية، مع الموازين الانتخابية الجديدة التي من المرجّح أن تُفرزها الانتخابات النيابية المقبلة، لمصلحة تحالف عون ــ جعجع. وخطاب «المظلومية» هذا، لم يعد سرّاً، بل بدأ يتردّد من طرابلس، حيث لم يُعزّز الحريري علاقته بالرئيس نجيب ميقاتي، عطفاً على التحالف في الانتخابات البلدية الأخيرة، وفي البقاع، الذي عادت إليه أجواء التنافر بين المستقبل والوزير السابق عبد الرّحيم مراد، على الرغم من الدور السعودي الذي دفع الحريري إلى سلسلة «مصالحات داخلية» تضمن «وحدة الطائفة» بالنسبة إلى السعوديين، على غرار «الطوائف المتحدة» الأخرى في الكيان اللبناني. ويحيط بالحريري معسكران: واحدٌ لا يرى جدوى من مهادنة الشركاء في الطائفة والتفاهم معهم كما كان الحال قبل الوصول إلى رئاسة الحكومة، وآخر «عاقل»، يرى المشهد الآتي من موازين القوى الجديد في لبنان، ويرى في التفاهم مع «الشركاء في الطائفة» دعماً وتحضيراً للمواجهة الداخلية المقبلة على الأحجام والحصص، وربّما النص.
الأزمة الحكومية أعمق من منح حقيبة التربية للوزير سليمان فرنجية أو تمسّك القوات بحقيبة الأشغال ونزعها من حصّة الرئيس نبيه برّي. هي أزمة أدوار وحصص جديدة للطوائف، وإذا رُتبت الحكومة المنتظرة على المقياس القديم لحكومة الرئيس تمام سلام الآن، فلن تكون كذلك في حكومة ما بعد الانتخابات. فأين مفرّ الحريري؟