توشكُ حلب أن تطوي حقبة دامية من تاريخها المعاصر. وسواءٌ أعجب ذلك البعض أم لا، فمن المسلّم به أنّ هذا الحدث كفيلٌ بإدخال شيء من الفرح إلى قلوب قرابة مليونٍ ونصف مليون من سكّان المدينة المنكوبة، يضاف إليهم مئات الآلاف حوّلتهم الحرب نازحين إلى مدن أخرى أو لاجئين خارج الحدود.
وإذا كان مفهوماً وطبيعيّاً أن تثير الكيفية التي انتهت بها «معركة حلب» ردود فعلٍ شديدة التّباين لدى السوريين، فالغريب والمستهجنُ هو تحويل الناقمين جام غضبهم ليصبّ على فرحة حلب «الممنوعة». أكثر من ذلك، ذهب الغاضبون بعيداً إلى حدّ تصوير الفرحين من أبناء المدينة «شركاء في القتل ومهلّلين للمجازر». هذه الكيفيّة في التعاطي مع أبناء «عاصمة الشمال» لا تُعدّ جديدةً على المشهد السوري، وإذا كان الحلبيّون قد كفّوا خلال العامين الأخيرين عن تذكّر مآسيهم مع السّحل والخطف والإهانة والقتل «على الهويّة» على الطرقات بين المحافظات بتهم «التشبيح والعمالة» خلال العامين الأوّلين، فلأنّهم في واقع الأمر قد انشغلوا بمآسٍ من طرازٍ أكبر، من أمثلتها تحويم شبح الموت فوق رؤوسهم باستمرار (يتساوى في ذلك سكان الشطرين). من أمثلتها أيضاً ضياع «شقا عمر» كثير منهم بفضل «التشويل» و«التعفيش»، علاوة على حرمانهم من معظم مقوّمات الحياة: مياه الشرب تحوّلت ورقة ضغط دائمة بيد «جبهة النصرة» وشركائها، الكهرباء باتت ترفاً لا طائل من التفكير فيه، الحصارات المتتالية والمُتناوبَة بين الشطرين، وغيرها الكثير. خلال السنوات الماضية، كان وجع حلب يكبر بهدوء حيناً وصخب حيناً، ويكبر معه تحويل هذا الوجع ورقة تبحث عن رصيد على طاولات التفاوض وتحتها، حتى وصلت الحال بكثير من أبناء المدينة حدّ الاقتناع بأنّهم منذورون لحرب لن تنتهيَ قبل فنائهم وزوال مدينتهم. لكنّ تطوّرات الشهور الأخيرة فتحت من جديد «طاقات رجاء» تطلّع إليها كثير من الحلبيين، مرة في شكل اتفاق مُحتمل يدفع الحرب بعيداً عن مدينتهم، وأخرى في شكل «حسم عسكري» وهو الذي صمد في النهاية. السؤال الواجب طرحه اليوم: هل كان فرح الطيف الأكبر من الحلبيين ليختلف لو أنّ الحرب غادرت مدينتهم بموجب اتفاق؟ والجواب: لا، فهل يمكن بعد كل هذه المآسي أن نتوقّع غير الفرح بمغادرة الحرب، أو ابتعادها على أقل تقدير؟ ثمّة حقيقة يُتغاضى عنها ومفادها أن «الجغرافيا ليست موقفاً سياسيّاً»، مسارات الحرب كانت قد ضمنت لـ«الأحياء الغربيّة» أن تبقى صاحبة الاكتظاظ السكاني الأكبر، مع ملاحظة أنّ قسماً غير قليل من قاطنيها جاؤوا إليها من «الأحياء الشرقيّة» هرباً من آلة القتل وتلمّساً لأمانٍ نسبيّ لم يدم طويلاً، فسرعان ما ارتدت آلة القتل زيّاً جديداً وطاردتهم. هل كان هؤلاء أيضاً من بين الفرحين خلال الأيام الماضية؟ نعم، يمكن الجزم بذلك، لماذا؟ لأنّهم يؤمنون بأنّ احتمالات موتهم انخفضت كثيراً وقاربت حدّ التلاشي. كانَ حريّاً بكل من أغضبه فرح فئة غير قليلة من الحلبيين أن ينظر إلى الأمور من زاويتها هذه تحديداً. يبدو مفيداً أيضاً أن يفطن الجميع إلى أنّ التفكير في معاداة مدينةٍ توشك أن تعودَ «لا شرقيّة ولا غربيّة» هو ضربٌ من الجنون حتماً.