لم تعد الكتابة عن سوريا تجدي. هناك معسكرات واصطفافات واضحة وقاطعة، لا مكان فيها للناقد أو المعترض. إما أن تدخلها فتظفر بالهتاف من جهة، أو أن تخرج منها وتخوّن من الطرفين. التعاطف بلغ ذروته في الإعلام الغربي ووسائل التواصل الاجتماعي العالميّة.
أعتى عتاة كارهي العرب والإسلام ذرفوا دموعاً مدرارة على أهل حلب، حتى المحطات اللبنانيّة اليمينيّة ومراسلوها ــ الذين واللواتي امتهنوا العنصريّة ضد الشعب السوري على مر عقود ــ ذرفواً دموعاً على الشعب السوري. حتى القسيس فرانكلين غراهام، الذي نعت الرسول العربي بأبشع النعوت والذي نفى أن يكون الإسلام ديناً مثل باقي الأديان (والذي نفى بشدّة أن يكون المسلمون يعبدون الإله نفسه الذي يعبده المسيحيّون واليهود، والذي طالب ــ قبل ترامب ــ بحظر دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة)، ظهر على شاشة «سي إن إن» وعبّر عن تعاطفه مع أهل حلب. التعاطف مع سوريا بات مِن أسهل العواطف، ومن متطلّبات التماهي مع المصالح الأميركيّة.
والتعبير عن العواطف في الغرب (والشرق) بلغ حدّاً سمح فيه الصهاينة بعقد مقارنات مع «الهولوكست». فترى في الفايسبوك شعارات وصوراً تقارن بين حلب ومدن أخرى مع «الهولوكست». الغرابة في الأمر أن دولة العدوّ وصهاينة العالم كانوا يثورون ويعترضون ويرمون تهم معاداة السامية (الجاهزة) على كل من يجرؤ على عقد مقارنات بين المجازر الإسرائيليّة ومجازر النازيّة (أنا لا أحبّذ مقارنات الشرور الإنسانيّة). لكن هذه المرّة، دخل الصهاينة على الخط، وكانوا أوّل من رفع شعارات «الهولوكست» عن حلب لخدمة دعاية التحالف الأميركي ــ الإسرائيلي. والكتّاب العرب الذين كانوا يعترضون ويحتجّون إذا ما لفظ عربي كلمة نازي عن الصهاينة في إسرائيل، كانوا أوّل من استسهل المقارنة مع «الهولوكست» هذه المرّة. لمَ لا؟ لا الأمير اعترض، ولا الصهاينة اعترضوا. تصحّ المقارنات التاريخيّة فقط إذا سدّدت غرضاً للمصالح الصهيونيّة.
والعواطف باتت دافقة هذه الأيّام. الذين وعظوا، عرباً وأجانب، بضرورة النأي عن العواطف في العمل الصحافي أو الكتابي، والذين سخروا من عواطف الذين كتبوا عن فلسطين وضد الاحتلال الإسرائيلي عبر العقود، نبذوا نبذهم السابق عن العواطف في الكتابة عن أهل حلب ــ وباسم الشعب السوري. والذين طالبوا بضرورة الالتزام بالموضوعيّة، وبصرامة، في الكتابة الصحافيّة عن الصراع العربي ــ الإسرائيلي ــ وبعضهم لم يكتب كلمة عن فلسطين ــ برزوا في ثياب العواطف للضرورة القصوى. هل من علاقة بين حريّة التعبير عن العواطف عندما تكون العواطف متشاركة بين أنظمة الخليج وبين حكومات الغرب؟ ولماذا تكون تغريدات المراسلين الغربيّين في بيروت بوصلة تسمح لغيرهم في بلدان عربيّة بالترخيص لإطلاق العواطف الممنوعة عن فلسطين وعن كل مكان تسقط فيه الصواريخ والقنابل الأميركيّة والأوروبيّة (حتى لا ننسى مشاركة الدانمارك في قصف سوريا) والإسرائيليّة؟ والذين سخروا من إطلاق أوصاف ونعوت سلبيّة على الكيان الإسرائيلي الغاصب ــ كم تزعجهم هذه العبارة ــ أطلقوا العنان في أوصافهم لحكّام سوريا وإيران وروسيا. المعيار، طبعاً، لا علاقة له بالمهنة. الإعلام عن سوريا هو عمل سياسي ــ دعائي، ومن كل الأطراف. ليس هناك من تغطية إعلاميّة من أي كان في هذه الحرب: هي جزء من المجهود الحربي (الخليجي أو السوري أو الغربي أو الممانع).
وليس هناك من معايير متماسكة وواحدة في التغطية الصحافيّة. يرفض الغرب عندما يريد التعميم عن إرادة الشعوب بالتحرّر، متذرّعاً بضرورة إجراء استطلاعات رأي مركونة قبل الحديث عن إرادة الشعوب. أما مراسلة «واشنطن بوست»، وهي بوق دعائي لـ«الثوّار» من دون أي مهنيّة في الكتابة، فتتحدّث عن أن «الشعب السوري يريد». سألتها عن صفتها في الحديث عن الشعب السوري، فردّت أنهم يقولون لها ذلك. هذه مثلما كان العدوّ الإسرائيلي يقول إن الشعب الفلسطيني يقول سرّاً إنه بأغلبه ضد منظمّة التحرير. والمراسلون الغربيّون والغربيّات لم يشذّ عنهم واحد في التغطية والكتابة (ربّما باستثناء باتريك كوبرن في «إندبندنت»، وصديق وليد جنبلاط روبرت فيسك، الذي لا يُمكن الركون بكلمة يقولها عن أي بلد أو في أي موضوع، وهو بدا أخيراً مُردّداً لدعاية النظام السوري عن نفسه).
ومحطة النظام القطري، «الجزيرة»، اخترعت مبكّراً زمن الانتفاضات مصطلح «المراسل ــ الناشط». والكل بات ناشطاً في الإعلام. يعبّرون بسخاء وابتذال عن عواطفهم على وسائل التواصل الاجتماعي: وهذه العواطف لا تحيد عن عواطف الأنظمة التي ترعى وسائل الإعلام. فترى أن الإعلامي/ الناشط الذي أسال أطناناً من الحبر في ذم محطة «الجزيرة» في الإعلام السعودي أو الحريري في سنوات الخلاف القطري ــ السعودي بات من المعجبين (والمعجبات) بها، ويستشهد بها في تحليل الوضع السوري، ويظهر على شاشاتها مبتهجاً (كان كل العاملين والعاملات في الإعلام السعودي ممنوعين وممنوعات من الظهور على «الجزيرة» قبل سنوات من تسوية الخلاف بين النظامين). و«المراسل ــ الناشط» ظاهرة تسرّبت إلى الإعلام الغربي أيضاً. الذين كانوا يصرّون على ضرورة العرض «الموضوعي» للحدث الإخباري تفلّتوا من عقالهم وباتوا يسخرون ويحرّضون ويتصنّعون الحزن والأسى على شعب لم يظهر منهم يوماً تعاطفاً معه أو مع قضاياه. لافتٌ أن كل الذين تعاطفوا في الغرب مع الشعب السوري لم يكتب منهم أحد كلمة عن الجولان المحتل.

إقحام الموضوع الفلسطيني بات من المسلّمات الدعائيّة في الحرب السوريّة

والحروب جارية في كل المنطقة العربيّة خارج سوريا ــ وبإرادة أميركيّة ــ أوروبيّة ــ إسرائيليّة، لكنّ تلك حروب لا ضحايا فيها. ليس هناك من ضحايا للقصف الأميركي في ليبيا أو للقصف الفرنسي في مالي أو للقصف الأميركي في الصومال أو في العراق وفي سوريا (عدّلت الحكومة الأميركيّة من أكاذيب سابقة لها عن ضحايا مدنيّين لقصفها في سوريا وفي العراق، لكنّ مرصداً بريطانياً كذّب التقديرات الأميركيّة المُخفّفة). والاصطفاف الإعلامي لا يعترف بضحايا، إلا إذا سقطوا بقنابل الأعداء وصواريخهم. وإعلام الغرب، كما إعلام النفط والغاز العربي، يعتبر أنه ليس من مقاتلين البتّة في المناطق الخاضعة لـ«الثوّار». في المناطق المحرّرة، الكل مدنيون وجلّهم نساء وأطفال. ليس من مقاتلين بينهم: فقط نشطاء (وفي عرف الدعاية الأميركيّة يكون «الثوّار» الموالون لها «نساءً وأطفالاً»، هكذا كانت الدعاية الأميركيّة تقول عن القتلى من المجاهدين الأفغان في الثمانينيات).
الكل ناشط في الإعلام في المناطق الخاضعة لـ«الثوّار». وكل القنابل والصواريخ التي يلقيها المحور الممانع ــ الروسي (لا تستقيم لعبة ضم روسيا، حليفة إسرائيل، إلى محور الممانعة) على مناطق «الثوّار» لا يحدث أن تصيب مقاتلاً يوماً. كل ضحاياها من المدنيّين. أما في إعلام الممانعة، فليس هناك من مدنيّين في مناطق «الثوّار»: كل هؤلاء من الإرهابيّين الجهاديّين. لا يحدث أن تصيب القنابل والصواريخ والبراميل (استحدثت العصابات الصهيونيّة البراميل المتفجّرة وهي استعملتها في التدمير الكامل ليافا في عام ١٩٤٨ ــ راجع كتاب «مدينة بيضاء، مدينة سوداء: الهندسة المعماريّة والحرب في تل أبيب ويافا»، لشارون روتبارد) المدنيّين والمدنيّات في المناطق الخاضعة لسيطرة «الثوّار». لا يحدث هذا أبداً في حساب الإعلام الممانِع. كأن سوريا فرغت من أهلها في جانب، وعجّت بأهلها في جانب آخر: هي ساحة للتصارع بين مقاتلين من جهة، ومدنيّين من جهة أخرى، فقط. عندما وقعت حلب تحت سيطرة «الثوّار» في عام ٢٠١٢، طلعت جريدة «ذي غارديان» البريطانيّة بعنوان أن الثوّار أعدموا «شبّيحة». لا يقتل «الثوّار» إلا «شبّيحة»، في عرف الإعلام الغربي والعربي المُتحالف. والذي ينتقد «الثوّار» أو الذي يذمّهم من منظور يساري أو ليبرالي مدني ــ وهذا نادر جداً في العالم العربي لأن المشروع الليبرالي متحالف بقوّة مع طغاة الخليج، وهذا سبب رئيسي لفقدانه الصدقيّة او الشعبيّة ــ فهو يصبح تلقائيّاً شبّيحاً. محطة «فرانس ٢٤» نشرت قبل أيّام صوراً لأطفال سوريّين يهزجون بعد سقوط شرق حلب ووصفتهم بـ«موالين للأسد». الأطفال في سوريا باتوا وقوداً فقط للحروب الدعائيّة، ولم يبرع فيها ولم يستغلّهم أكثر من «الثوار» ومن مؤيّديهم. ما أسهل الاستعانة بالأطفال في الحملات الدعائيّة.
لكن تغطية الإعلام المُمانع للجيش السوري والميليشيات المتحالفة معه لا تقبل إلا التهليل والتصفيق للجيش السوري. ترى صوراً لجندي سوري يعطي وردة لطفلة أو يحمل امرأة عجوزاً على ظهره، وتقول في نفسكَ: ألم نختبر الجيش السوري في لبنان؟ أين كانت هذه الإنسانيّة؟ أين كانت عندما استوقفني حاجز للجيش السوري في عام ١٩٧٩ مع رفيقة من الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين قرب مصرف لبنان وطلب منّي المسؤول عن الحاجز مغادرة المكان لأنه يريد أن يغتصب رفيقتي (استعمل عبارة سوقيّة بذيئة في التعبير عن رغبته)؟ هل تغيّر الجيش السوري كثيراً؟ هل تغيّرت «عقيدته القتاليّة»، كما يقولون في لبنان عن جيش ميشال سليمان وجان قهوجي؟ ماذا عن تقارير عن تجاوزات وعن إيذاء للمدنيّين وعن حالات تعذيب؟ أليس من ضرورة للتحقّق والتحقّق في عرف إعلام الممانعة؟ وتغطية مراسل محطة «العالم» في حلب كانت أشبه بالاحتفال في يوم العيد. تكاد تنسى أن هناك ضحايا من المدنيّين وهناك دمار أكيد في الخلفيّة من جراء القصف الجوّي والبرّي. لماذا لا يسترشد الإعلام الممانع بإعلام حزب الله بعد عدوان تمّوز؟ كان إعلام الحزب متحفّظاً ولم يلجأ إلى النزعة الانتصاريّة. تهيّب الحزب الموقف آنذاك واحترم الضحايا من صفّه ومن المدنيّين. لكن نزعة التشفّي والشماتة سائدة، والإعلام الغربي لا يراها إلا من جانب واحد وهو يعتبر سقوط مدينة بيد «الثوّار» خدمة للإنسانيّة، لكن سقوط مدينة بيد النظام هو كارثة إنسانيّة. المعايير هي سياسيّة أولاً وأخيراً.
ويظهر كاتب في صحيفة مملوكة من أمير سعودي على محطة «إل بي سي» (بات إعلام ميليشيا بشير الجميّل الطائفي الرجعي والعنصري تاريخيّاً ضد الشعبين السوري والفلسطيني مُشاركاً بقوّة في حفلة التعاطف الإنساني، على أن لا يتعارض مع مصالح التحالف السعودي ــ الأميركي ــ الإسرائيلي) ويعظ المشاهدين بالأخلاقيّات والحساسيّة المدنيّة. مَن أوعز لكتّاب النفط والغاز أنهم متفوّقون أخلاقيّاً بحكم عملهم لمصلحة طغاة الخليج على غيرهم؟ مَن الذي قرّر لهم أن لا طاغية في العالم العربي إلا في سوريا، وأن طغيان دول الخليج ليس إلا نموذجاً غير مألوف من الحكم الديموقراطي؟ يظهر الكاتب على تلك المحطة ويتنافس مع الإعلاميّة في اصطناع الدموع والعواطف، وتتذكّر أنهما كانوا من الجوقة نفسها التي اتشحت بالسواد وتفجّعت على وسام الحسن (والذي حسب صحيفة «إيكونوميست» و«نيويورك تايمز» في ما بعد، يتحمّل مسؤوليّة جسيمة عن الدماء السوريّة وعن الإرهاب الذي ضرب لبنان وسوريا. هذا كان من أوائل مُشعلي النيران السوريّة، وبإيعاز التحالف الأميركي ــ الإسرائيلي). هؤلاء قرّروا أنهم أوصياء على الأخلاق العاميّة والدوليّة بحكم ولائهم لأنظمة الخليج. ويرفض الكاتب هذا الحديث عن اليمن قائلاً: أنا تحدّثت عن اليمن ودفعت الثمن. لكن الإعلاميّة في صفّه السياسي لا تسائله ولا تستشهد بـ«غوغل» كي نعرف أين كتب عن اليمن وكيف دفع الثمن. لا، وهو زاد أنه يرفض الحديث عن اليمن مع أي كان. طبعاً، يرفض لأن الحديث عن اليمن لا يمكن أن يحيد عن أوامر المتحدّث باسم «قوات التحالف». هذه ليست عويصة. وهناك مَن يحاول أن يوازي في مواقفه بين سوريا واليمن عبر القول: أنا ضد جرائم النظام السوري وضد الحرب على اليمن، كأن القارئ أو المشاهد لا يلحظ الفارق في التعبير وفي تحميل المسؤوليّة بين القسم الأوّل من الجملة والقسم الثاني. الحرب على اليمن هي حرب فاعلها مجهول. قد تكون الأعاصير هي التي ضربت اليمن وهي التي دمّرت وقتلت أطفال اليمن. لكن الأطفال عزيزون فقط عندما يُقرّر الغرب ذلك. أطفال فلسطين لم يصبحوا عزيزين بعد. معايير دول الخليج أو دول الغرب باتت هي السائدة، وهي تسيطر على نحو ٩٧٪ من الإعلام العربي، فيما تسيطر إيران وحلفاؤها على الباقي. في هذا الإعلام، هناك حديث عن الطاغية العربي الوحيد (لا غير، إذ إن طاغية السودان لم يعد طاغية منذ أن قبل المال السعودي وغيّر وجهة سياساته الخارجيّة)، والباقون حكّام منتقون ديموقراطيّاً وإلهياً وغربيّاً. وكاتب في جريدة أمير سعودي كشف هذا الأسبوع عن ظاهرة القمع العربي الفظيعة: حدّد وقال إن لجان المقاطعة والنظام السوري وحدها تقمع حريّة الرأي في العالم العربي. أما المساجين الذين خالفوا رأي الحكومة في تغريدات أو في قصائد، أو الذين عبّروا عن تعاطف في فلسطين، فهؤلاء يستحقّون العقوبة لأنهم خالفوا مشيئة الأمير/ الإله.

ماذا تفعل لو أردتَ
أن تتعاطف مع كل
الشعب السوري؟


وإقحام الموضوع الفلسطيني بات من المسلّمات الدعائيّة في الحرب السوريّة. على طرف، هناك المعارضة السوريّة «المدنيّة» التي رفعت شعارات ضد حزب الله و«حماس» في الأيّام الأولى للانتفاضة ــ عندما كانت انتفاضة شعبيّة. وبرهان غليون لم ينتظر طويلاً بعدما نصّبته دول الخليج زعيماً على معارضة الخارج السوريّة قبل أن يعطي مقابلة لصحيفة «وول ستريت جورنال» في عام ٢٠١١ وعد فيها بإعادة النظر في العلاقة مع حزب الله وحماس وإيران. لم يكن قد بدر بعد عن حزب الله بوادر تدخّل ما في سوريا. (لكن غليون، للأمانة التاريخيّة، وعد في المقابلة عينها بأن تعود سوريا إلى حضن دول الخليج إمعاناً في تطوّرها الديموقراطي). والطرف الموالي لـ«الثوّار» ينشر بالعربيّة والإنكليزيّة مقارنات على مدار الساعة بين وحشيّة النظام السوري ووحشيّة العدوّ الإسرائيلي في مقارنة لا تفيد إلا تبرئة ذمّة العدوّ الإسرائيلي ودفعه لارتكاب المزيد من الوحشيّة في حروبه المقبلة. لكن هذه المقارنات المنشورة هي أبعد من سذاجة سياسيّة: هذه تكون مشبوهة عندما تكون متناسقة وعندما يتزايد الغزل بين العدوّ وقادة أو أجنحة بين «ثوّار» سوريا.
لكن حزب الله، كطرف مقاوم أذلّ العدوّ الإسرائيلي على أرض المعركة كما لم يذلّ من قبل أو من بعد، لم يحسن ربط عمليّاته العسكريّة في سوريا مع موقفه في ردع إسرائيل ومعاقبتها. الحزب لم يربط دوره في سوريا بفلسطين إلا متأخراً، ما أضفى على الربط نوعاً من الاستغلال السياسي. هو بدأ التدخّل تحت عنوان الدفاع عن المقدّسات الشيعيّة، لكنه عاد واستعان بحجّة الدفاع عن لبنان، قبل أن يستقرّ على مقولة أن محاربة «الإرهابيّين» ومحاربة العدوّ الإسرائيلي هي معركة واحدة. لكن لم يُقنع الحزب كثيرين بهذا الربط، واستقدام مقاتلين شيعة من دول مختلفة حول العالم (من أفغانسان إلى العراق إلى غيرها) أضعف حجّة الربط مع معركة الحزب ضد العدوّ الإسرائيلي. وهناك أجنحة وقيادات في «الحشد الشعبي» العراقي مما كان عوناً للاحتلال الأميركي وصمت في حرب تمّوز. لو أن دافع هؤلاء المقاتلين الشيعة من دول مختلفة هو مقارعة أذرعة إسرائيل، فلماذا أحجموا عن القدوم أثناء عدوان تمّوز؟ وماذا الضرر الذي لحق بقدرات المقاومة بالرغم من كسب «خبرات قتاليّة»، كما يقول الإعلام الغربي في الحديث عن الحزب. وماذا سيفعل الحزب لإنقاذ العلاقة بينه وبين المقاومين في فلسطين المحتلّة؟
وكيف دخل الحزب، أو كيف أدخل الحزب نفسه، في نطاق «الحرب العالميّة على الإرهاب»؟ وكيف شارك الحزب في استعمال مصطلحات «الإرهاب» و«الإرهابيّين» وهي من اجتراح إسرائيلي ضدّه وضد كل مقاومة عربيّة ضد الاحتلال الإسرائيلي. هناك عواقب في القانون الدولي ومترتّبات من جرّاء هذا الاستسهال في استعمال مصطلحات «الإرهاب»، بالتعريف الأميركي ــ الإسرائيلي، طبعاً. إن تحديد الإرهاب وتعريفه ليسا من صنع شعوب العالم الثالث. و«الإرهاب» يكون على يد منظمات وعلى يد أنظمة، كما قرّرنا يوم إنشاء دولة العدوّ الإسرائيلي. ليست «داعش» هي وحدها الإرهابيّة في سوريا.
لا نصرَ يُرجى في حلب، أو في غيرها في سوريا. تستطيع الأنظمة العربيّة أن تزهو بنصرها في الهزائم وفي الانتصارات العسكريّة ضد الشعوب وضد المنظمات التي تسمّيها إرهابية. لكن الحرب في سوريا هي سلسلة من الهزائم ومن الانتصارات الوهميّة. ولأن دولاً خارجيّة باتت تسيطر بالكامل أو جزئيّاً على قرارات المتحاربين وعلى مصائرهم، فإن المحصّلة النهائيّة ستعكس مصالح خارجيّة. لكن كيف يمكن للجراح أن تندمل، وللمتحاربين أن يلتقوا؟ هذه من الحروب الطويلة التي لا تنتهي مضاعفاتها. وكيف يمكن لقادة الأطراف السوريّة المتصارعة أن يلتقوا على مستقبل سوريا، فيما يعرض طرفٌ رئاسة لا منتهية تمتدّ إلى حافظ الأسد الحفيد ويعرضُ الطرف المقابل خلافة دينيّة رشيدة؟ والفريق الممانع سلّم أمره لـ«المُفاوض الروسي» (وهو حليف أكيد للعدوّ الإسرائيلي) كي يتشارك مع «المفاوض الأميركي» حول مستقبل سوريا. لكن الحكومة الأميركيّة وحليفتها إسرائيل لن تقبلا بحرب في سوريا لا تمتد على أكثر من عقد من الزمن، أو اكثر بكثير. الحكومة الأميركيّة هي المسؤولة الرئيسية عن استمرار ــ إن لم يكن إشعال ــ الحرب الإيرانيّة ــ العراقيّة وعن حرب جنوب السودان وعن الحرب الأهليّة اللبنانيّة وعن الحرب الصوماليّة، ولن يهنأ لها أو لإسرائيل بال ما لم تستمرّ الحرب في سوريا لمزيد من السنوات.
لكن يبقى التعاطف وذرف الدموع والتباكي (الصادق والمزيّف) على سوريا وأهلها. هناك مَن يتعاطف مع نصف الشعب السوري، وهناك مَن يتعاطف مَع نصفه الآخر. ماذا تفعل لو أردتَ أن تتعاطف مع كل الشعب السوري؟ أين تذهب؟
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)