صبَر الرئيس سعد الحريري على جُرحه. نام على الضيم، لكنّه لم يُسامح ولم ينسَ. حسبها جيداً قبل إطلاق مرحلة تصفية الحساب، وإعادة بعض الرؤوس والوجوه إلى حجمها الطبيعي. لم يصطد صقور تياره ممّن زاحوا سنتيمترات عن سكّته السياسية. بل على العكس، أعاد توحيدهم في وجه «عدوّه» اللدود أشرف ريفي، ضمن جبهة وزارية مهمتها كسر «جوانح» الأخير، واسترداد الشارع «المسلوب» على أبواب الانتخابات النيابية.
منذ عودته إلى البلاد، وضع الحريري كل «همومه» السياسية والمالية في كفّة، و«انقلاب» أشرف ريفي عليه في الكفّة الأخرى. وزاد وسواس الانتقام، بعد أن «علّم» الوزير المنشقّ على رئيسه في أحد معاقله السياسية والشعبية طرابلس، بكسح لائحة التحالف التي انضم إليها تيار المستقبل. ورغم أن حركة التمرّد التي ساقها (ريفي) لم تصِل إلى نقطة حرجة تضع الأمر على طريق اللاعودة، أصرّ الحريري على أن «يُربّي» الجميع به، فكانت الحكومة هي الفرصة: أبرز ثلاثة أسماء سنيّة في الشمال والبقاع ذات ثقل شعبي وسياسي ستفتح دفتر الحساب مع «اللواء»، وتخوض معركة الحريري النيابية من داخل الحكومة. للمرة الأولى، تخلّى الحريري عن الخيار الحداثوي، وفضّل اعتماد المعيار الانتخابي الشعبي في اختيار وزرائه، ليكونوا بمثابة قوة ضاربة يُقاتل بها لاسترداد ما خسره شعبياً.

المشنوق هو الوزير «الجوكر» الذي يصلح في كل مكان وزمان



شُكلت الحكومة، فنال «المُستقبل» حصّة تيار يعاني مع قاعدته الشعبية بعد سلسلة انكسارات سياسية ومالية، واختار لأول مرة الشعبوية على حساب الحداثة التي لطالما حاول إضفاءها على حصصه الحكومية منذ حكومات الرئيس الراحل رفيق الحريري، كغسان سلامة وجهاد أزعور وباسل فليحان وريّا الحسن وغيرهم. هذه المرة كانت الحكومة لمعين المرعبي ومحمد كبارة وجمال الجراح، بهدف محاولة وصل ما انقطع مع الشارع العكّاري والطرابلسي والبقاعي. حكومة بلون اليمين في زمن الانكسار والتسليم بالأمر الواقع وفوز 8 آذار وتسليمهم للبلد.
حصة الشمال وحدها عدة مواجهة مع المعارضين، وخصوصاً أشرف ريفي. ذلك أن ضمّ معين المرعبي بعد احتواء خالد الضاهر، وجّه ضربة قوية لمشروع تمدد ريفي إلى الساحة العكارية، خصوصاً أنه كان يعتمد على هذين الاسمين لمقارعة المستقبل في عكار بعد طرابلس التي تستعد لمواجهة جديدة بين محاور أفرزها تشكيل الحكومة.
لم يكن اختيار محمد كبارة في طرابلس عرضياً. أبو العبد اليوم، بالنسبة إلى تيار المستقبل، أكثر من يصلح لمواجهة مع ريفي بشعبوية لا تقل ثقلاً، خصوصاً أن ريفي اقتبس الكثير من حالة كبارة. بين الأسماء التي كانت مطروحة في المدينة لدخول جنة الوزارة إلى كبارة النائب سمير الجسر ومصطفى علوش. رسا الخيار على كبارة بما أنه أكثر شعبية من الاثنين، وينحدر من عائلة عريقة. المرحلة المقبلة هي مرحلة الاختبار، فهل ينجح «أبو العبد»؟
في البقاع كانت الخيارات أسهل. وحده الجراح ممكن أن يؤدي المهمة، بعد أن اختزلت بيروت بالوزير نهاد المشنوق وصيدا بالنائبة بهية الحريري، فيما تلقى المستقبل مرغماً ضربة قوية في إقليم الخروب عبر توزير طارق الخطيب، مما ترك استياءً شعبياً.
في حصّة المستقبل وزيران مسيحيان، أصرّ الرئيس الحريري عليهما، للتأكيد على أن تياره عابر للطوائف. لكن في حقيقة الأمر، فقد نال غطاس خوري حقيبة الثقافة كمفكافأة على الدور الذي لعبه في ملف رئاسة الجمهورية، تارة مع الوزير سليمان فرنجية عند ترشيحه من قبل الحريري، وتارة أخرى مع العماد ميشال عون. أما جان أوغاسبيان فهو ممثل النواب المسيحيين في كتلة المستقبل داخل الحكومة. يبقى الوزير نهاد المشنوق. الأخير على الأرجح ينطبق عليه لقب «الجوكر» الذي يصلح في كل مكان وزمان. يُمكن أن يكون في حكومة تنال ثقة مجلس النواب بصعوبة، وفي حكومة تنال ثقة كبيرة جداً. حجز مكاناً له في حكومة ما قبل حلب وما بعدها. كان حاضراً في حكومة ما قبل صعود اليمين في أوروبا ويصلح لأن يكون بعده. وقبل دونالد ترامب وما بعده أيضاً. ولا شك في أنه يصلح في حكومة مواجهة مع حزب الله، أو حكومة مهادنة... وكل ذلك في حقيبة الداخلية بالذات. حكومة الانتخابات، وفق توصيف الحريري، تحوّل الداخلية عملياً في هذه الظروف إلى أم الوزارات السيادية، من مرحلة قانون الانتخابات وصولاً إلى فرز الأصوات، وما بينهما من خدمات وتشبيك مع مختلف البلديات.