حلب | ينزل من الباص ودموعه تسابق الثلج المنهمر. يعجز عن إجابة المتطوع في الهلال الأحمر إن كان بحاجة لعناية طبية. يَمّم وجهه نحو مدخل الباب حيث يلفح ضوء المدافئ. يدخل أبو ماهر وزوجته ويفترش إلى جانب أقرب مدفأة غاز صغيرة. يحبس أنفاسه وعَبَراته، ويقول «الحمدلله».
نسأله عن «باقي العائلة»، لتخونه مُقلتاه مجدداً: «عندي ابنتان... رفض المسلحون أن تخرجا معنا». ابنتا الرجل الستيني متزوجتان من شابين ينتميان الى «اللجان الشعبية» المدافعة عن البلدتين المحاصرتين. جيران كفريا والفوعة يعرفون بعضهم البعض. من خرج في الباصات مدوّنة أسماؤهم لدى المسلحين، واذلال الأهالي عمل طبيعي لم يتوانوا عن فعله في سنوات الحرب.

كنّا نبقى على
قيد الحياة
من المعلّبات
وعلب الدواء المرمية جوّاً

زوجته تُعدّد جيرانها «الطيبين» في رام حمدان ومعرة مصرين، وتذكرهم بالدعاء والخير. «نص ادلب مغلوب على أمرها... الأمير يحكم بس كمان الطائفية عم تكبر»، تقول لـ»الأخبار».
في ثلاثة «هنغارات» متصلة، جُهزت الفرش والبطانيات وعيادة متنقلة ومطبخ صغير لاستقبال موقت لمئات الخارجين من جحيم الحصار الادلبي، قبل نقلهم نحو منطقة حسياء في ريف حمص حيث السكن... «إلى أن تُفرج».
في زوايا المسكن لمّ شمل جزئي، تُلملم العائلات حكاياها. مُعظمها مع من حالفه الحظ ولم يكن في قريته يوم سقوط مدينة ادلب في آذار 2015 واقفال آخر طريق يصل كفريا والفوعة بمناطق سيطرة الدولة السورية... أو من أهالي البلدتين القاطنين سابقاً خارجها لدواعي العمل.
في منتصف الغرفة وقف رجل وتحلّق حوله بعض الأطفال يُعانق شاباً باللباس العسكري: «هيدا صهري نعتز به... ونفخر به». المُقاتل في أحد التشكيلات الحليفة للجيش السوري يختفي سريعاً من المشهد. الخجل على مُحيّاه لم يمنع والد زوجته من رفع صوته ملاحقاً انسحاب الشاب: «الله يحميك... بكرا انت بدك توصل برجلك لبيتنا ونعيش كلنا هْنيك».

اتجاه القبلة!

يقترب خمسيني من أحد المتطوعين ويسأله عن اتجاه القبلة في قرية جبرين الحلبية. يدلّه عامل الإغاثة على الاتجاه. يضحك الرجل أمام استغراب المتطوع ويروي له: يا حبيبي في الضيعة كانت الدعابة تُفضي إلى توجيه القبلة حسب مكان المساعدات الملقاة جوّاً من الطائرات كل أشهر... كنّا نبقى على قيد الحياة من المعلّبات وعلب الدواء الهابطة. يهمس ابن الفوعة إلى نازح بجانبه «المتطوعين آكلين همّ أكتر منّا... مزحة كانت مزحة».

في غرفة أخرى، جوّ الدعابات ينكسر في وجه صبية تمسك شطيرة الطعام، وتقربها من ثغرها وترجعها. «شكتها» والدتها لأحد الأطباء: لم تأكل منذ 30 ساعة (وهو الوقت الذي بقيت فيه الدفعة الثانية من الأهالي على معبر الراشدين قبل سماح المسلحين لهم بالدخول إلى حلب).
تسمع المراهقة شكوى أمّها... تقترب من الطبيب وتقول «كيف آكل، في آلاف جوّا بلا أكل وما رح يطلعو. ليش أنا أحسن منهم». يجمع محدثها أنفاسه بحثاً عن إجابة علمية تُقنعها. من بعيد، يقول لها أحد مرافقيها: «بكون فرحان أخوكي اذا عرف إنو بقيتي بلا أكل؟». تحمرّ وجنتاها، تأخذ السندويش وتجلس سريعاً قاضمةً لقمتها الأولى.
في «علبة الحكايا» المفتوحة، يُخرج حسن الزين كل طاقته بين أعمدة الهنغار مع اثنين من أقاربه الخارجين معه وابن خالته القاطن في مدينة حلب.

لعبة «اللقيطة» أفرغت ضحكاتهم وأصواتهم فوق كل بقعة. يركضون كسجناء علموا توّاً بحكم براءتهم. «كنّا نبرك (نجلس) في البيت كلّ الوقت. لا مدرسة ولا شغل» يروي الطفل. أحمد أتى مع والدته. لا ينتظر ابن العشر سنوات سؤالاً عن باقي أفراد الأسرة. «اخواتي بتعرف (في اللجان)... والبابا بِساعد بتوزيع الخبز بس ترميهم الطائرة»، يقفل إجابته ويكمل لعبه.

«المدفأة كلها»

نصف ادلب
مغلوب على أمرها... الأمير يحكم بس كمان الطائفية
عم تكبر


تقترب طفلة من أبيها وتذكّره بوجوب اشعال «عين» واحدة من مدفأة الغاز: «تلاتة بتخلص الجرّة بسرعة». الأب المصاب يجد صعوبة في تفسير «الحالة الجديدة» لابنته، وهو المعتاد أن «يُحاضر» يومياً في كيفية تحقيق الاكتفاء بما تيسّر من خبز وغاز إن وُجد. تلك الجرار التي تتساقط متفجرة فوق قريته كان استخدامها للتدفئة أو الطبخ من الكماليات. «بدها وقت لتطلع من حالة الضيعة» يروي عن طفلته. ولكي يُثبت لها عدم التبذير ينادي عائلة أخرى لـ»تتنعم» بالدفء «الاكسترا» إلى جانبهم. يقترب أبو حسن وزوجته ويجلسان قرب المدفأة، ويبدآن بالتخطيط لرحلة علاج ظهره وما يمكن تأمينه من دون تكاليف كبيرة. يسأله المسؤول عن تعبئة استمارات العائلات الخارجة عن معلوماته الشخصية وحالته الطبية وعن أولاده. يجيبه: «طلعنا كلنا أنا وزوجتي وبناتي». يذهب صاحب الاستمارة، ليقول له جاره في الدفء: «ليش ما قلت عن الصبيان»، فيجيب: «ايه طلعنا كلنا... الصبيان شغلتهم يأمنوا رجعتنا. هني مو محاصرين. نحن هلق محاصرين من برّا»!




من 4000 إلى 2500... مع وقف التنفيذ


بعد الاتفاق على خروج 2500 مدني من قريتي كفريا والفوعة مقابل الآلاف من مسلحي أحياء حلب الشرقية وباقي العائلات، خُفّض الرقم أخيراً إلى حوالى النصف. الاتفاق الذي خرق وعدّل مرات عدة لم يصل إلى مستوى التنفيذ المطلوب من قبل دمشق وحلفائها. رقم 2500 سيستكمل مع اتفاق رديف يتعلق ببلدتي مضايا والزبداني في ريف دمشق الغربي، رغم أنّ هذا الاتفاق الأولي كان سيرفع عدد الخارجين من القريتين الادلبيتين إلى 4000. نصف انجاز، حُقق بما يخص كفريا والفوعة حيث لا يزال يقطن حوالى 20000 نسمة في حصار دامٍ منذ آذار 2015.