ليس من المبالغة القول إن كورال الجيش الأحمر إضافة إلى فرق الباليه الروسية تشكل أقدم السفارات الروسية الثقافية في العالم الخارجي والغربي خصوصاً، أقله في القرن العشرين مع خفوت وهج الأدب الروسي بالمقارنة مع القرن التاسع عشر ومع تصدر الخبر السياسي الواجهة على خلفية التغيرات السياسية الهائلة التي كانت روسيا مسرحها منذ بداية القرن الماضي.
تاريخياً شكل عهد كاترين الثانية الطويل (1762-1796)، خاصة مراسلاتها مع بعض فلاسفة وكتاب "عصر الأنوار"، وشراء مكتبتي ديدرو وفولتير، واقتناء مجموعات كاملة لرسامين أوروبيين مؤلفة من حوالى 4000 لوحة، النواة الأولى للآرميتاج الذي سيصبح لاحقاً أكبر متحف في العالم من ناحية عدد المقتنيات، والثاني بعد اللوفر في فرنسا من حيث المساحة، بفارق بضعة أمتار. شكل هذا كله نوعاً من الديبلوماسية الثقافية الواعية لكاترين الثانية، التي هدفت إلى إعطاء صورة معينة عن روسيا من خلال شخص الإمبراطورة، صديقة الفلاسفة وحامية الفنون، الطاغية إنما المتنوّرة.
وقدّمَ صورة مختلفة عن أدب الرحالة الغربيين ــ السلبي بمجمله ــ الذي ساهم في تعريف نخبة غربية معينة ببلد لطالما اعتبرته أوروبا الغربية والكثلكة تحديداً غريباً عنها، أو بأقل تقدير حاولت تهميشه باعتباره بربرياً وخارج دائرتها. ينقل الرحالة الغربيون من جان ــ فرانسوا جورجيل الى كوستين مروراً بماسون، دو كوبرون أو اوتروش وغيرهم صورة قاتمة أو كاريكاتورية عن روسيا القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. والكثير من الكليشيهات المتداولة والمعاد تدويرها حالياً مدينة في أساسها إلى هذه الأدبيات التي تشكل نوعاً ما خلفية عامة.
بعدها أو بشكل معاصر انضمت طغمة من الكتاب والأدباء الروس من القرنين التاسع عشر والعشرين، تضم بشكل أساسي دوستويوفسكي، بوشكين، تولستوي، غوغول، تشوكوف، تشاداييف، تورغينييف، بولغاكوف، غوركي، بونبن، باسترناك، سولجينيتسين، اوليتسكايا، نابوكوف.... وأسماء أخرى أقل أهمية، انضمت إلى مصادر الصورة التي لروسيا في أوروبا الغربية، خاصة في فرنسا وألمانيا. تنوع الإنتاج الأدبي بين الرواية والشعر والمسرح والأدب السياسي، مشكّلاً شاهداً على مرحلة مفصلية في تاريخ روسيا المعاصر بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. في حين طغى الأدب السياسي أو ذات المدلول السياسي الطاغي في النصف الأول من القرن العشرين مع كتاب كبلغاكوف، باستيرناك، اكماتوفا وصولاً إلى سولجينيتسين في النصف الثاني من القرن الماضي.

تاريخياً هناك عدة فرق
تستطيع أن تصف نفسها
بفرقة الجيش الأحمر

لاحقاً منذ مطلع القرن الماضي شكلت فرق الباليه وكورال الجيش الأحمر تصديراً لصورة معينة، غير رسمية بالنسبة إلى الباليه على الأقل، منذ تأسيسها سنة 1907 وبدء عروضها الأوروبية بعدها بسنتين وخاصة منذ أن أصبحت خاصة سنة 1911، منهية بذلك كل ارتباط بالسلطة السياسية القيصرية حينها، إلى انطفائها برحيل مؤسسها دياغيليف سنة 1929. أما الباليه التي ستعود على الساحة الدولية في الخمسينيات بعد موت ستالين، وستراكم عدداً من العروض في الخارج فهي فعلياً تلك التابعة للبولشوي بعدما حجم مسرح مارينسكي منذ الثلاثينيات. كل هذه العروض الخارجية منذ أواخر الخمسينيات وحتى منتصف الثمانينيات كانت أداة ديبلوماسية وتندرج في مواجهة رمزية فنية وسياسية بين الاتحاد السوفياتي والأميركيين إضافة إلى الأوروبيين في الوسط، متفرجين ــ ناقدين حيناً، ومشاركين أحياناً.
يُضاف إلى ديبلوماسية "الرقص من أجل السلام" هذه، ديبلوماسية أخرى كانت أداتها كورال الجيش الأحمر، واحدة من الفرق السوفياتية النادرة التي كانت تقيم حفلات خارج الاتحاد السوفياتي. كالمشاركة في المعرض الكوني في باريس سنة 1937 أو قصر الرياضات سنة 1967 مع ميراي ماتيو التي عادت ورافقت الفرقة في عدد من عروضها في روسيا هذه المرة بعد عشرين عاماً.
تاريخياً هناك عدة فرق تستطيع أن تصف نفسها بفرقة الجيش الأحمر، كمجوعة الكسندروف التي تأسست سنة 1928 بقيادة الكسندر الكسندروف، وهو واضع لحن النشيد السوفياتي ــ الروسي حالياً بعد تغيير الكلمات عام 2000 ــ إضافة إلى كونه ملحن أغنية Sviachtchennaïa Voïna أو "الحرب المقدسة" الشهيرة. مجموعة سلاح الجو وهي مجموعة لم تعد موجودة، مجموعات عدة لسلاح البحرية بحسب الأساطيل، وكلها تابعة لوزارة الدفاع، وبالتالي توصف كل منها على حدة بأنها كورال الجيش الأحمر. بعكس المجموعة التابعة للشرطة الداخلية، مجموعة الـ NKVD أي المخابرات الروسية بالتسمية السابقة، والتي لم توصف إلا مؤخراً ولأسباب دعائية تسويقية بأنها كورال الجيش الأحمر كونها تابعة لوزارة الداخلية MVD. وهي تأسست سنة 1939 بقيادة الكسندر فاسيليفيتش.
والفرقة المعروفة عالمياً اليوم تحت مسمى "كورال الجيش الأحمر" هي فعلياً تلك التابعة لوزارة الداخلية الروسية لا فرقة الكسندروف التابعة لوزارة الدفاع. منذ الثمانينيات بدأت هذه الفرقة بالصعود مع تسلم فيكتور اليسييف قيادتها سنة 1985، وموت بوريس الكسندروف قائد المجموعة الأخرى. فقامت بتحديث لائحة الأغاني التي تقدمها والتي هي بالأصل أغانٍ روسية تقليدية من الفولكلور الشعبي أو التقليد الديني، ما سمح لها بالوصول إلى جمهور أوسع. وهي قد قدمت منذ الثمانينيات أكثر من 7000 عرض في أكثر من 50 دولة وأمام ما مجموعه حوالى 20 مليون شخص وبلغات متعددة، من بينها تلك التي أدتها الفرقة للبابا الراحل يوحنا بولس الثاني في الحاضرة الرسولية. إشارة إلى أنها قد زارت لبنان في تشرين الثاني العام الماضي وقدمت عدة حفلات في كازينو لبنان. في حين أن الفرقة التي قضى 64 من أفرادها (من أصل حوالى 200 بين مغنٍّ، عازف وراقص) هي التي تأسست سنة 1928 وقامت منذ تأسيسها بعدة نشاطات فنية كالزيارات للمناطق البعيدة في الاتحاد السوفياتي لتشجيع عمال خط سكة الحديد في الشرق الروسي، ومع بداية الحرب العالمية الثانية قامت الفرقة بحوالى 1500 عرض على مختلف الجبهات، في المطارات وفي المستشفيات لدعم الجيش الأحمر معنوياً في المجهود الحربي. احتفظت الفرقة باسمها إلى سنة 1978 حيث أصبحت تسميتها الرسمية "المجموعة الأكاديمية الكسندر الكسندروف للغناء والرقص في الجيش الروسي".
توالى على قيادة الفرقة بعد الكسندروف ابنه بوريس قبل أن يخلفه فياتشيسلاف كوروبكو في 1987. أخيراً كان يقودها الجنرال فاليري خاليلوف، وهو قائد أوركسترا ومؤلف موسيقي، اعتاده من يتابع عروض الجيش الروسي كل عام، إذ كان يقود الموسيقى العسكرية التي ترافق العرض العسكري. إشارة إلى أن هذه الفرقة كانت قد زارت الجنود الروس على عدة جبهات أو مناطق انتشار خارج روسيا كأفغانستان أو يوغوسلافيا والشيشان، وكانت في طريقها إلى سوريا لإحياء عيد رأس السنة مع الجنود الروس قبل الحادث المؤسف.
تشكل خسارة النواة الصلبة للفرقة، من عازفين ومغنين وقائد الأوركسترا، ضربة كبيرة جداً، لا يمكن تعويضها قبل عدة سنوات وربما عقد. بالانتظار لن يحرم محبو "كورال الجيش الأحمر" من حضور الفرقة الأخرى التي ستستمر بعروضها في مختلف أنحاء العالم.




ماذا عن مهرجان الموسيقى العسكرية العاشر؟

لم يرشح شيء بعد عن مصير مهرجان الموسيقى العسكرية العاشر «سباسكايا باشنيا»، ثالث مهرجان موسيقى عسكرية عالمياً، الذي من المفترض إقامته بين 26 آب و3 أيلول في الساحة الحمراء، بعد مصرع 64 من أعضاء فرقة ألكسندروف، ومن بينهم فاليري خاليلوف صاحب فكرة المهرجان. لكن من المرجح جداً الإبقاء على المهرجان الذي يقام سنوياً منذ 2007. وهو مهرجان يشارك فيه عدد من أفضل فرق الموسيقى العسكرية عالمياً، إضافة إلى الفرق الفولكلورية وحرس الشرف لعدد من الرؤساء.
يتيح المهرجان لسكان موسكو وزوارها مشاهدة العروض في الساحة الحمراء مجاناً، إضافة إلى مجموعة عروض أخرى تتوزع على عدد من الحدائق العامة، مع اهتمام خاص بالأطفال، إذ ستُبنى مدينة مصغرة، حيث يمكنهم اللعب وتعلم بعض المهارات اليدوية.
ومن المقرر أيضاً مشاركة مدرسة ركوب الخيل التابعة للكرملين، قبل أن يختتم المهرجان باستعراض موسيقي كبير تشارك فيه كل الفرق ــ نحو 1500 موسيقي ــ وهي تعزف لحناً واحداً، بالتزامن مع إطلاق المفرقعات النارية وعرض ضوئي على واجهة كاتدرائية القديس باسيل. وحتى الآن، كانت أربع دول قد أعلنت نيتها المشاركة، هي: فرنسا، بريطانيا، إسبانيا والصين.