كلّما طرحت مجموعة من المواطنين المؤمنين، من الكنيسة الأرثوذكسيّة، موضوع الاعتداءات الجنسيّة في الكنيسة، وطالبت المسؤولين الكنسيّين بالتخلّق بأخلاق يسوع المسيح والدفاع عن الضحايا عوض الاعتداء عليهم مرّة ثانية بإسكات أصواتهم، يطرح بعض المؤمنين على ضمائرهم مفهوم التوبة المفتوحة للجميع، وضرورة عدم إدانة الآخر، ويشعرون جرّاء ذلك بأزمة "صراع" في غير محلّه بين ضميرهم وإيمانهم.
بالطبع، هناك الذين لم يعتادوا على أن يقاوموا أيّ شيء، ويفضّلون أن يتابعوا حياتهم كما هي فيستمرّون بـ"سلام"، هؤلاء يطلبون من الصارخين في وجه صمت الكنيسة البشع عمّا يجري فيها، أن يصمتوا كي يتابعوا حياتهم في "سلامٍ" هو في الحقيقة استسلام لقباحة الواقع، ولشيطان الصمت الذي يفتك بحياة البشر.
ولكن هناك أيضاً الذين يشعرون بأنّه عليهم أن يصمتوا لأنّ المطالبة بالعدالة تتعارض – كما يظنّون- مع عدّة مبادئ إيمانيّة مسيحيّة منها أن ينظر الإنسان إلى خطاياه أولاً عوض النظر إلى خطايا الآخرين، ومنها أنّ الدعوة إلى التوبة مفتوحة لكلّ إنسان مهما كانت ارتكاباته. هذه المبادئ هي بالفعل تعاليم ليسوع، لكن سوء الفهم يكمن أوّلاً في فهم معنى هذه المبادئ الإيمانيّة، وثانياً في إغفال تعاليم أخرى ليسوع تدعو إلى الدفاع عن المظلومين (ويسوع قد دافع عن المظلومين طوال حياته).

بالنسبة إلى التوبة وعدم الإدانة

بالنسبة إلى التوبة، لا التوبة المفتوحة للجميع تعني الصمت عن انتهاك كرامة البشر، ولا إصدار حكم كنسيّ أو قضائيّ يعني إغلاق باب الرجوع إلى الله أمام إنسان. التوبة تعني أنّ كلّ إنسان يمكنه أن يرجع عن خطاياه ليعود إلى محبّة الله والآخرين، ولكنّ التوبة ليست مجرّد كلام لفظيّ وإنّما هي جهدٌ يبدأ بالاعتراف بالخطايا وطلب المغفرة من الشخص الذي أسيء إليه ومن الله، ويتبعه أعمال ملموسة يغيّر بها التائب طريقة حياته بالفعل والممارسة. اللصّ المصلوب عن يمين يسوع لم تتح له فرصة الممارسة لأنّه كان سيموت، لكنّه اعترف علناً بخطاياه واقتبل نتائجها، واعترف بأنّ الضحيّة-يسوع بريء وأنّه ببراءته السيّد؛ هذا قال له يسوع أنّه يكون معه في الملكوت مع أنّه قضى حياته لصّاً. أمّا اللصّ المصلوب الآخر، ذاك الذي برّر لنفسه أفعاله، ذاك الذي برّر حياديّته أمام الجريمة كبيلاطس، ذاك الذي برّر تهجّمه وتهكّمه على أوجاع المصلوب، فهو الذي أدان نفسه بنفسه. في حالة التحرّش والاعتداء الجنسيّ التوبة تقتضي الاعتراف بالجرم، وطلب المغفرة، والقيام بعمل أساس يقتضيه العقل ألا وهو الشروع بالعلاج النفسيّ، مضافاً إلى العلاج الروحي طالما المعنيّ بالموضوع مؤمن، وتحمّل التبعات التي يقتضيها القانون.

التوبة المفتوحة للجميع لا تعني الصمت عن انتهاك كرامة البشر

أمّا عدم إدانة الآخرين فلا يعني أن يصمت الإنسان عن الحقّ وألا يتدخّل في شؤون الحياة، بل يعني أنّه لا يمكن لأحد أن يُصدر بحقّ الآخرين حكماً بمصيرهم الأخير، بموضوع خلاصهم، بدخولهم أو عدم دخولهم الجنّة، أي لا يمكن لأحد أن يسبر قلب الآخر ليعرف هل هو قريب أم بعيد من الله ومن الآخرين. لهذا فإنّ مفهوم عدم إدانة الآخرين، لا يتعارض إطلاقاً مع طلب المحاكمة الكنسيّة والمدنيّة، والأخيرة ضروريّة عندما تتلكّأ الكنيسة عن تحمّل مسؤوليّاتها وتغضّ الطرف عن ممارسات كانت موجودة لعشرات السنوات وتغطّي للمتّهم ممارساته اليوم. أن تقوم مجموعة تنتفض لما تراه من استهتار في مشاعر وأجساد وأنفُس وحقوق ضحايا التحرّش في الكنيسة الأرثوذكسيّة وتطالب بمحاكمة عادلة، وأن تقوم يوماً ما، محكمة ما، بالنطق بحكم عادل يدين المرتكب، لا يعني إدانة روحيّة للمرتكب في أيّ شكل من الأشكال، فهو يبقى مسيحيّاً طالما أراد ذلك، وأبواب التوبة تبقى مفتوحة له ولا يمكن لأحد أن يغلقها أمامه أو أن يدّعي الحلول محلّ الله وأن يطلق أيّ شكل من أشكال الدينونة بالمعنى الدينيّ للكلمة.
إنّ التوبة المفتوحة للجميع، وعدم إدانة إنسان لآخر، مبدآن لا يتعارضان إطلاقاً مع العمل الجاد والحثيث للاستيقاظ من السبات المعنويّ والروحيّ الذي يدفع بالكثير من المؤمنات والمؤمنين بيسوع كي يصمتوا ويخدّروا وعيهم. بالإضافة إلى ذلك فإنّ هناك خلطاً مؤسفاً بين خطايا وخطايا، نعم كلّ الخطايا تحتاج إلى توبة، ولكن إن كانت بعض الخطايا تدمّر صاحبها وقد لا تؤثّر سوى قليلاً في غيره، فبعضها الآخر يدمّر غير صاحبها بالدرجة الأولى ويدمّر صاحبها. إنّ هناك أنواعاً من الخطايا، فكلّنا قد نحبّ المال، ونصاب بالكبرياء، والنميمة، والحسد، ولكن لسنا كلّنا متحرّشين، أو مغتصبين لقصّار ولبالغين، أو سارقين، أو قاتلين. إنْ كان الكلّ مدعوّاً للتوبة، فإنّ طريقة التعامل مع المخطئين ووسائل تسهيل توبتهم، تختلف باختلاف نوع وفداحة الخطيئة. في موضوع الاعتداء الجنسيّ، تشكّل المحاكمة ضمن القانون الكنسيّ والمدني جزءاً لا يتجزّأ من ردّ اعتبار الضحية والدفاع عنها ومن دفع المعتدي إلى التوبة. إنّ خلط الأمور، والدعوة إلى الصمت لأنّنا كلّنا خطأة، لا يؤدّي سوى إلى التفريط بكرامة الضحايا مرّتين، المرّة الأولى عندما لم تحم الكنيسة الشباب من الاعتداءات (خاصّة عندما تكون تعرف عن المعتدي ثمّ تتركه بلا رادع سنوات طويلة)، والمرّة الثانية عندما تترك المعتدي دون عقاب وردع، وتغطي عنه. كما إنّ خلط الأمور، والدعوة إلى الصمت وترك الأمور كما كانت عليه، لا تؤدّي إلى دفع المعتدي إلى التوبة، أي لا تؤدّي إلى إصلاحه. من يخلط الأمور على أساس أنّنا كلّنا خطأة نحتاج إلى توبة -وعى أم لم يعِ - يشارك في الجريمة ضدّ الضحايا (الحاليين واللاحقين)، وفي خطأ فادح بحقّ المعتدي لأنّه لا يدفعه إلى التوبة التي لا تستقيم دون اعترافٍ، وحكمٍ يؤدّب، وردّ اعتبار للضحيّة.

وصايا يسوع

بعد هذا الإيضاح الضروريّ، ننتقل إلى النقطة الثانية ألا وهي أنّه لا يمكن الأخذ بوصيّة ليسوع وإهمال أخرى، فوصايا يسوع لا يمكن أن تؤخذ إلّا بشكل متكامل. فيسوع كان مدافعاً عن المظلوم طوال حياته على هذه الأرض. فـ"من لا يصدّ الظلم الذي يهدّد أخاه [أو أخته]، في حين أنّه قادر على ذلك، لا يقلّ ذنباً عن الذي يقترف الظلم"، كما كان يقول أمبروسيوس أسقف ميلان في القرن الرابع. إنّ التمسّك الحرفيّ بوصيّة من الوصايا قد يقودنا إلى مخالفة وصية أخرى، فكما يقول كوستي بندلي «إذا أخذنا آية "طوبى لصانعي السلام لأنّهم أبناء الله يدعون"، على أنّها دعوة إلى إحلال السلام مهما كان الثمن، ولو اقتضى منّا ذلك السكوت عن سحق المظلومين، جابهتنا الآية القائلة: كلّ ما لم تفعلوه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي لم تفعلوه». (1)

بصمات الطائفيّة

إنّ ما يدفع إلى الصمت ليس فقط الخطأ في فهم المبادئ الإيمانيّة، وإنّما أيضاً الطائفيّة التي تجعل الكثير من المؤمنات والمؤمنين في كلّ طائفة يشعرون بضرورة إخفاء الجرائم المماثلة في طوائفهم درءاً لما يظنّونه "فضيحة" أمام الطوائف الأخرى، كأنّ جرم شخص واحد تُسأل عنه طائفة بأكملها، وكأنّ التحرّش والاعتداء الجنسيّ ليسا موجودين في جميع الطوائف. النتيجة أنّنا بتنا نرى بين المسيحيين مفهوماً مهترئاً غير إيمانيّ ولا أخلاقيّ يدعى "صيت الكنيسة" يوضع في وسط الاهتمام، وبسببه يُظهر العديد من رجال الدين ومن المسيحيّات والمسيحيّين، استعداداً للتضحية بيسوع المسيح نفسه (الذي وحّد نفسه بالمظلومين) من أجل أن يبقى "صيت الكنيسة" "نظيفاً"، فيغيب عنهم بأنّ صيت الكنيسة هو في الوحل حقيقة، وعلى أرض الواقع، جرّاء الاعتداءات الجنسيّة التي يعرف بها المسؤولون ويصمتون عنها خوفاً من "الفضيحة"، بينما الفضيحة والخيانة الإيمانيّة تكمن بالضبط في التغطية على هذه الارتكابات. هؤلاء يضحّون بالضحيّة البريئة من أجل حماية صيتٍ وهميّ، يضحّون بالإنسان من أجل المؤسّسة، شأنهم شأن رئيس الكهنة قيافا الذي حكم على يسوع البريء بالصلب قائلاً "خير أن يموت واحد عن الشعب". إنّ هذا الواحد البريء اليوم هو كلُّ مَنْ اعتُدِيَ عليه جنسيّاً داخل الكنيسة، أو أيّة مؤسّسة دينيّة أو مدنيّة أخرى. إنّ شأن الصامتين، هؤلاء المنسحبون الراضخون وأولئك المغطّون للارتكابات، هو شأن بيلاطس الذي غسل يديه من دم يسوع، إذ أنّهم يحاولون بـ"ماء" الطقوس والتراتيل الرخيمة غسل أيديهم الملوّثة بعار صمتهم عن صليب الضحايا، بعار صمتهم عن صليب يسوع في الضحايا.

خاتمة

من حسن حظّ الكاثوليك في منطقتنا أنّهم يتبعون في تنظيمهم الكنسيّ لروما، فرغم المحاولات المتتابعة لإنكار موضوع التحرّش والاعتداء الجنسيّ والتقليل من شأنه في الكنيسة الكاثوليكيّة (2)، اضطرّ مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك، بطلب من روما، إلى إقرار توجيهات وقوانين بشأن التعامل مع حالات التحرش والاعتداء الجنسيّ في ١٦ تشرين ثاني ٢٠١٦ (3)، وأن يؤكّد أنّ الرحمة لا تنفي العدالة، وأنّ الكنيسة ستسعى كي يكون "التحقيق في حالات التحرش والتعدي الجنسي سليماً وموضوعياً يظهر بوضوح مسؤولية المعتدي". كما وقد أعلن البابا فرنسيس في رسالة له وجهها إلى الأساقفة الكاثوليك في ٢٨ كانون أوّل ٢٠١٦، بصوت نبويّ، عدم التسامح في قضايا التحرّش والاعتداء الجنسيّ في الكنيسة الكاثوليكيّة وكتب قائلاً أنّ "أشخاصاً كانوا مسؤولين عن رعاية هؤلاء الأطفال قضوا على كراماتهم. نندد بذلك بقوة ونطلب الصفح. كما نتشارك مع الضحايا في معاناتهم، وبدورنا نبكي هذه الخطيئة. خطيئة كل ما حدث، خطيئة الإحجام عن المساعدة، خطيئة التزام الصمت والنفي، وخطيئة استغلال السلطة" (4). إنّ الكنيسة الكاثوليكيّة تعترف بخطاياها الجماعية بصوت عال وبجرأة، وتتقدّم تائبةً نحو يسوع المصلوب في الضحايا، هل تتعلّم الكنيسة الأرثوذكسيّة شيئاً من توبة الكنيسة الكاثوليكيّة عن جريمة صمتها، أم تصمّ آذانها عن صرخة "إخوة يسوع الصغار" وتغسل يديها من نزيف كرامتهم، موغلةً في خيانة المسيح؟
يسوع قال إنّه والضحايا واحد، إنّه والمظلومون واحد؛ وهو لم يقل فقط إنّ كلّ مَنْ يفعل لهم خيراً فإنّما له يفعل الخير، بل قال أيضاً أنّ كلّ مَن امتنع عن فعل الخير مع المظلومين فإنّه يمتنع عن فعل الخير مع يسوع نفسه، وعلى أسس هذا التنبيه بنى يسوع تعليمه عن الدينونة في اليوم الأخير. إنّ المخلصين ليسوع، أولئك الذين يرون وجهه في الضعفاء المعلّقين على صلبان هذا العالم، لا يتركون المصلوبين وحيدين، بل يعملون جاهدين أن يرفعوا عنهم كلّ ظلم، ساهرين على ما يضيء في وجوههم من كرامةٍ وحياة. أولئك الذين يخلصون ليسوع اليوم، أو يخلصون له غداً، يكونون قد بدأوا فهماً متجذّراً بالعيش وبالفعل، أنّ لا مسيحيّة دون المسيح المصلوب، ولهذا ألزموا أنفسهم بالمصلوبين المظلومين الأبرياء، لأنّه حيث اجتمع اثنان أو ثلاثة دعماً لمصلوب كان المسيح بينهم، وكانت الكنيسة.
* أستاذ جامعي

المراجع:

(1) كوستي بندلي، النضال اللاعنفيّ ملامح وصور، منشورات النور، بيروت، 2000، ص. 29.
(2) نزار صاغيّة، "لبكي، جماعة الأشرار ومرايا الطوائف: قرار قضائي برفع اليد عن رجال الدين عملا بالدستور"، المفكرة القانونيّة، ٣
حزيران 2016.
(3) الوكالة الوطنيّة للإعلام، "مجلس البطاركة الكاثوليك أقرّ نصاً عن التعامل مع حالات التحرش الجنسي: الرحمة لا تنفي العدل"، الأربعاء 16 تشرين الثاني 2016.
(4) وكالة الصحافة الفرنسية: "البابا للكهنة المتحرشين بالأطفال: لا تسامح".