ظهر الصحافي فيصل عبد الساتر، على محطة «إل. بي. سي» قبل نحو أسبوعيْن. قَرَّعت المذيعة المقاومة عبرَه: وبّختها وقالت معترضة (ما معناه): كيف يمكن أن تكون هناك حركة مقاومة تعتبر أن مقاومة إسرائيل هي أولويّة ولا تثني على باراك أوباما؟ شرحت له أن من بديهيّات المقاومة ضد إسرائيل هي تأييد باراك أوباما وسياسة الحكومة الأميركيّة نحو العدوّ الإسرائيلي.
وعظته حول ضرورة مباركة معارضة باراك لإسرائيل. لم يجبها عبد الساتر بما تستحقّه لكن هذه هي ثقافة الإعلام السائد في عصر النفط والغاز و... بيار الضاهر. بات من واجب المقاومة — كي تكون مقبولة من أعداء المقاومة ـــــ أن تثني على باراك أوباما وعلى سياسته، أي على أعداء المقاومة. والتعبير عن الإعجاب بخطاب العدوّ واعتناق مصطلحاته هو من مستلزمات العمل الإعلامي الحديث، حيث فُتحت بوابات العبور (بالاتجاهيْن) بين العمل الإعلامي والطموح بالعمل في منظمّات الـ«إن. جي. أو». وتصنيف محطة «إل. بي. سي» لعمليّات عز الدين القسّام كأعمال إرهابيّة هي في هذا السياق من التماهي الإعلامي. وعليه، فإن العمل في الإعلام المحلّي بات يسترشد بتوجّهات الإعلام الغربي ومصطلحاته ومعاييره من أجل الترقّي المحلّي في مهنة الإعلام.
العمليّة ليست باطنية كليّاً، بل هي واعية من حيث قياس المهنة بمعايير تُعتبر أرفع من قياس الثقافة العربيّة المتعاطفة مع القضيّة الفلسطينيّة. وإذا كان الإعلام الغربي (الصهيوني دوماً وأبداً) قد اعتبر أن جون كيري في خطابه، أو أوباما في امتناعه عن استعمال الفيتو، قد صفع إسرائيل، فإن المُردّدين والمُردّدات يجترّون ما يقرأونه من عناوين صحف الغرب المبنيّة على معايير مناصرة إسرائيل في ١٠٠٪ من الحالات. أي أن عولمة الإعلام ليست عفويّة بل هي جزء من فرض ثقافة الغرب الصهيونيّة على السكّان المحليّين. والإعلاميّات والإعلاميّون يرون في أنفسهم «نخبة»: تقرّر بالنيابة عن الناس وتصحّح لهم ما علق في أذهانهم من مفاهيم ومغالطات تضرّ بالغرب وحكوماته. هذه الصيغة نفسها مسؤولة عن تمنّع الإعلام المحلّي عن تحقير محكمة الحريري الأميركيّة ــ الإسرائيليّة لأن اعتناق صدقيّتها من أولويّات التماهي مع ما يُعتبر «مهنيّة» الإعلام الغربي. أي أن تعريف المهنيّة الإعلاميّة، وهو عمل سياسي، يخضع لنقل مصطلحات وقياسات الغرب.
ومِن مظاهر استيراد مصطلحات ومفاهيم الغرب هو هذا الاختزال العربي المُستحدث للقضيّة الفلسطينيّة تحت عنوان المستوطنات، وكأن دولة الاحتلال ليست هي أيضاً كيان من المستوطنات العسكريّة. والتركيز على المستوطنات (والتي تجاهلتها اتفاقيّات أوسلو، مما أثار اعتراضات حيدر عبد الشافي يومها) — دون غيرها من مظاهر الاحتلال الإسرائيلي — يتجاهل العنف اليومي في حياة الشعب الفلسطيني. على العكس من ذلك، إن مفهوم الغرب لجوهر الصراع — والذي ضمّنه الملك السعودي في صلب مبادرة «السلام العربيّة»، وبأمر أميركي — يجعل من الأمن حقّاً للاحتلال وليس لضحاياه. كما أنه يعترف بحقّ الاحتلال في استخدام القوّة فيما يحرمها من الضحيّة: هو مفهوم أن عنف المُحتلّ هو دفاع عن النفس وعنف الضحيّة هو إرهاب (وهذا يدخل في مصطلحات الحرب السارية على «الإرهاب»). وهذا المفهوم بحدّ ذاته بات من سمة الثقافة الإعلاميّة المعاصرة. فالتنديد بعنف الشعب الفلسطيني (أي بوسائل مقاومته ودفاعه عن نفسه) تلقى الاستنكار والتنديد الفوري فيما يتم تجاهل السلسلة اليوميّة من القتل الإسرائيلي. وقد أحصى مركز عبدالله الحوراني للدراسات والتوثيق ١٣٤ ضحيّة فلسطينيّة في العام الماضي فقط، بما فيهم ٣٥ طفلاً. فالمستوطنات أتت بعد ١٩٦٧، كأن القضيّة الفلسطينيّة لم تبدأ إلا بعد إنشاء أوّل مستوطنة. أي أن اختصار الاعتراض على الاحتلال بالمستوطنات يقصد تجاهل القضايا الأخرى، مثل حق العودة وحق المقاومة ورفض المشروع الصهيوني كما ورد في ميثاق منظمّة التحرير الفلسطينيّة، قبل تعديله من قبل بيل كلينتون.
وقد جاء القرار الأميركي الأخير بالتمنّع عن استعمال «الفيتو» في آخر أيّام إدارة أوباما كمناسبة لبثّ مفاهيم مغلوطة عن السياسة الأميركيّة في بلادنا. ولقد حاول محمود عبّاس وسلطته الفاسدة تصوير القرار على أنه تقريب لهدف تحرير فلسطين (ولقد بالغ نورمان فنكلستين في مقابلة مع «موندوفيس» في أهميّته). لكن القرار جاء وأوباما (شبه) فاقد لسلطاته: أي أن القرار الضعيف (الخالي من الأنياب، بلغة الديبلوماسيّة) يبدو أكثر ضعفاً في توقيته. لو أن إدارة أميركيّة قد اختارت التمنّع عن استعمال «الفيتو» في أوّل أيّام أو أسابيع إدارة ما، فإن الرسالة تكون قويّة ومدويّة، إذ أنها تؤذن بعهد صارم في التعاطي مع الاحتلال الإسرائيلي. لكن أن تأتي الرسالة في آخر أيّام الإدارة فهي لا تنمّ عن قرار ذي مفعول سياسي، بل عن خصام بين شخصيْن: بين أوباما ونتنياهو. والكسالى في الإعلام العربي عبّروا (عبّرن) عن شديد إعجابهم بقرار أوباما من دون اعتبار التوقيت والخلفيّات أو حتى نصّ القرار نفسه. ظنّ المصّفقون والمصفقّات العرب لقرار أوباما أن التمنّع عن استعمال الفيتو، أو السماح بتمرير قرار في مجلس الأمن غير مفيد لدولة العدوّ هو سابقة لا سابقة لها في العلاقات الأميركيّة ــ الإسرائيليّة. لكن الحقيقة أن كل الإدارات الأميركيّة المتعاقبة — وهي كلّها مؤيّدة لدولة الاحتلال — سمحت لسبب أو لآخر بتمرير قرارات مُدينة لإسرائيل. وتكفي المراجعة التاريخيّة لتبيان أن إدارة أوباما كانت بلا منازع أكثر الإدارات الأميركيّة حماية لإسرائيل في الأمم المتحدة. إن المقارنة بين الإدارات المتعاقبة، تظهر أن إدارة أوباما لم تتمنّع عن حماية إسرائيل بالفيتو إلا مرّة واحدة (وفي أيّامها الأخيرة — مما يضعف من قوّة القرار). أما إدارة بوش السابقة فقد سمحت (إما بالموافقة أو الامتناع) بتمرير ستة قرارات غير مفيدة لإسرائيل (أو أن إسرائيل عارضت تمريرها)، فيما سمحت إدارة بيل كلينتون بتمرير (إما بالموافقة أو الامتناع) ثلاثة قرارات، فيما سمحت إدارة جورج بوش الأب بتمرير (إما بالموافقة أو الامتناع) تسعة قرارات (وفي مدّة أربع سنوات فقط)، أما إدارة ريغان فقد سمحت بتمرير (إما بالموافقة أو الامتناع) ٢١ قراراً (وهذا كان الرقم القياسي في إدارة كانت معروفة بشدّة تعاطفها مع الاحتلال والعدوان الإسرائيلي)، فيما سمحت إدارة كارتر بتمرير (إما بالموافقة أو الامتناع) ١٤ قراراً (وفي مدّة أربع سنوات فقط).

إن مفهوم الغرب
لجوهر الصراع يجعل من الأمن حقّاً للاحتلال

إن هذه المقارنة تكفي للقول إن إدارة أوباما كانت من دون منازع من أشدّ الإدارات الأميركيّة مناصرةً للاحتلال الإسرائيلي ومن أسخاها قاطبة في تمويل وتسليح دولة الاحتلال. وهذا القرار الأميركي (بالامتناع عن التصويت) يجب ان يُفهم في سياق قرار الإدارة الأخير بالتوقيع على اتفاقيّة تزيد للمرّة الأولى منذ سنوات قيمة الدعم السنوي الأميركي لإسرائيل إلى حدود ٣٨ مليار دولار على امتداد عشر سنوات، بالإضافة إلى ما يلحق دولة العدوّ من هدايا ومنح موسميّة في كل مرّة تستنجد فيها إسرائيل بالولايات المتحدة عندما ترى نفسها ضحية لـ«إرهاب» العرب. كما أن الأزمة بين نتنياهو وأوباما هي أزمة شخصيّة، أو كيميائيّة، كما يقول الغربيّون (والغربيّات). أوباما يشعر أن نتنياهو لا يقدّر له خدماته الجلّى لإسرائيل فيما يرى نتنياهو أن الرئيس الأسود لا يطيعه بما فيه الكفاية (والعنصريّة القائمة على أساس البشرة متأصّلة في الصهيونيّة الأوروبيّة وهي تفسّر موقف اليهود الأوروبيّين في دولة الاحتلال نحو اليهود من أصل عربي — قصّة خطف أطفال العائلات اليمنيّة في أولى سنوات إنشاء الكيان لا تزال سرّاً من أسرار الدولة — بالإضافة إلى التعاطي مع اليهود الأثيوبيين والمهاجرين الأفارقة). وقبول نتنياهو لدعوة الكونغرس الأميركي لوعظ الرئيس الأميركي ضد قبوله بالأتفاق النووي مع إيران كان بمثابة إعلان الحرب السياسية من قبل نتنياهو ضد أوباما شخصيّاً (وقد التزمت هيلاري كلينتون الصمت حول فعلة نتنياهو طمعاً باستمرار الدعم الصهيوني الأميركي لحملتها — خصوصاً أن الإسرائيلي حاييم صابان أصبح العرّاب المالي الأساسي للحزب الديموقراطي ومرشّحيه الرئاسيّين).
ونصّ القرار في حدّ ذاته يعكس الضوابط التي وضعتها الإدارة الأميركيّة على تمرير القرار. والرئيس الأميركي الذي لم يتوقّف لحظة عن الدفاع عن دولة العدوّ في كل المحافل الدوليّة، والذي سخّر بعثة حكومته لدى المنظمّة الدوليّة لمنع القرارات المزعجة لإسرائيل، أفهم مَن ساهم في صنع وتأييد القرار أنه لن يسمح بتمريره من دون «الموازنة» في صيغته. و«الموازنة» هي المصطلح الجديد الذي اجترحته الصهيونيّة الأميركيّة من أجل التخفيف من وطأة جرائم إسرائيل والموازنة بينه كمُحتلّ وبين ضحايا الاحتلال وعدوانه. وهذه الصيغة هي باتت المُتبعة من قبل منظمّات حقوق الإنسان الصهيونيّة، خصوصاً منظمة «هيومن رايتس ووتش» التي لا يمكن لها أن تدين مجازر العدوّ من دون «الموازنة» في التنديد بمقاومة حزب الله في لبنان في حرب تمّوز أو في مقاومة الشعب الفلسطيني في غزة في الحروب المتوالية. وهذه الصيغة تبقى مقبولة من العدوّ لأنها تصل إلى نتيجة التعادل في الإدانة فيصبح المُحتلّ والضحيّة في الخانة الأخلاقيّة نفسها مع مفاضلة لصالح المحتل. وفي القرار الجديد ذي الرقم ٢٣٣٤ حرصت الحكومة الأميركيّة في إعلانها، وفي نص القرار، على التدليل على منطلقاته في الحرص على أمن دولة الاحتلال. وممثّلة الحكومة الأميركيّة في الأمم المتحدة كانت صريحة في تسويغها للقرار بعد الاقتراع على أن الدافع له لم يكن له علاقة بالشعب الفلسطيني بل بأمن ومستقبل دولة إسرائيل.
وتقريع الشعب الفلسطيني وحقوقه، بالإضافة إلى تقريع سلطة رام الله (التي أنشأتها أميركا لخدمة أغراض الاحتلال الإسرائيلي) بدأت بفذلكة القرار، قبل الدخول في متنه. وهي طالبت سلطة عبّاس بـ«مواجهة كل الذين هم ضالعون في الإرهاب»، وبـ«تفكيك القدرات الإرهابيّة». أي أن الحكومة الأميركيّة «وازنت» في القرار بين معارضة المستوطنات ونزع حق المقاومة من الشعب الفلسطيني. والقول بـ«مواجهة» كل الضالعين في «الإرهاب» ـــــ بالتعريف الإسرائيلي، طبعاً — يعني مواجهة سلطة رام الله لكل الشعب الفلسطيني من أجل حماية الاحتلال بأيدٍ محليّة. ولا تكتفي فذلكة القرار بإدانة «الإرهاب» بل هي تزيد بإدانة كل «أعمال الاستفزاز والتحريض والتهديد». أي أن الخطب التي تتحدّث عن المقاومة وتحرّض الشعب الفلسطيني على رفض الاحتلال تصبح هي أيضاً مُدانة. أما أعمال الاستفزاز، فقد تشمل عمليّات الولادة لأن «القنبلة الديموغرافيّة» — كما تسمّيها لغة الصهيونيّة العنصريّة — تقلق راحة الاحتلال، وهي تناقض الاعتراف (الأميركي) بإسرائيل «كدولة يهوديّة» أبديّة.
أما القرار نفسه فلا جديد فيه لأن لغته كانت أدنى من سقف لغة قرارات سابقة له. وقد أجرى الكاتب الأميركي نيكولاس صوايا، في موقع «كونتربنش» مقارنة بين متن القرار هذا ومتون قرارات سابقة (لمجلس الأمن) متعلّقة بالاستيطان ووجد أن هذا القرار أسوأ من غيره بكثير. فالقرار لا يطالب بوقف الاستيطان وإنما يطالب بوقف «نشاطات الاستيطان»، أي أنه يطالب بتجميد غير محدّد للمستوطنات. والأرقام المتداولة أميركيّاً للاستيطان (أي ٦٠٠٠٠٠ مستوطن) أرقام غير دقيقة لأن منظمّة «بتساليم» الإسرائيليّة تتحدّث عن ألاعيب وخدع إسرائيليّة للتقليل من الرقم الحقيقي وهو أقرب إلى ٧٠٠٠٠٠ مستوطن).
والعودة إلى قرارات مجلس الأمن من عاميْ ١٩٧٩ و١٩٨٠ تظهر بوضوح أنّ السقف الأميركي تدنّى كثيراً. فالقرار رقم ٤٦٥، مثلاً، يتحدّث بلغة أقوى عن المستوطنات فيقول إن المجلس «يستنكر بقوّة استمرار وإصرار إسرائيل على مواصلة تلك السياسات والممارسات ويدعو حكومة وشعب إسرائيل إلى إلغاء تلك الإجراءات، وتفكيك المستوطنات الحاليّة، وخصوصاً وقف، بصورة عاجلة، إقامة وإنشاء وبناء وتخطيط مستوطنات في الأراضي العربيّة المحتلّة منذ عام ١٩٦٧، بما فيها القدس».
لكن لا يجب الذهاب بعيداً في الانتشاء بقرارات عام ١٩٧٩ وعام ١٩٨٠ لأن كل القرارات المتعلّقة بدولة الاحتلال الإسرائيلي تخلو من أساليب وإجراءات التطبيق النافذة. يمكن المقارنة بين قرارات إدانة الاستيطان وقرارات التعجيل بإنشاء محكمة الحريري الدوليّة تحت الفصل السابع. وفي عام ١٩٧٥، عندما كانت الأمم المتحدة أكثر تعبيراً عن إرادة الشعوب والحكومات حول العالم، سُنَّ قرار «الصهيونيّة هي عنصريّة» (وهو قرار للجمعيّة العامة وليس لمجلس الأمن) فإن المندوب الإسرائيلي (الجنرال الإسرائيلي السابق حاييم هرتزوغ)، مزّق القرار أمام الحضور وأيّده في ذلك المندوب الأميركي آنذاك، دانييل باتريك مونيهان (أصبح سيناتوراً فيما بعد، وورثت هيلاري كلينتون مقعده عن ولاية نيويورك). لم تكتفِ الحكومة الأميركيّة برفض القرار، بل إن إدارة جورج بوش الأب انتظرت نهاية الحرب الباردة — أي عندما سيطرت الحكومة الأميركيّة بصورة شبه كاملة على الأمم المتحدة — كي تضغط على الجمعيّة العامّة، دولةً دولةً، من أجل التصويت في عام ١٩٩١ على قرار يُبطل عمل القرار الأوّل، وكانت هذه سابقة. وقد صرّح نتنياهو بعد صدور القرار الأخير مُطالباً بقرار آخر عن مجلس الأمن كي يُبطل عمل القرار الأخير، لكن ليس هناك من سابقة في مجلس الأمن بهذا الخصوص.

حاول محمود عبّاس
تصوير القرار على أنه تقريب لهدف تحرير فلسطين

وقد صمت الرئيس الأميركي عن القرار، ولم يحاول شرحه لشعبه. كان أمام أوباما في أيّامه الأخيرة — لو أنه كان جاداً في معارضته للاستيطان — فرصة تاريخيّة كي يخاطب الشعب الأميركي ويحدّثه عن أسباب ودوافع القرار الأميركي بالتمنّع لكنه ترك ذلك لوزير خارجيّته الذي ألقى خطاباً طويلاً (في أكثر من ٢٠ صفحة مطبوعة) ومملاًّ كرّر فيه السياسات والخطاب الأميركي. صحيح أنّ خطاب كيري تضمّن ما هو جديد: ١) للمرّة الأولى دان مسؤول أميركي سياسة نسب كل انتقاد لإسرائيل إلى معاداة الساميّة، أو جعل نقد إسرائيل مساوياً لمعاداة السامية. لكن اعتراض كيري هنا كان فقط في معرض الدفاع عن سياسات الإدارة التي وافقت على تعريف لا تاريخي ومُسيّس لمعاداة الساميّة أقحمت نقد إسرائيل ضمنه. أي أن اعتراض كيري لم يكن صادقاً بتاتاً. ٢) للمرّة الأولى أجرى مسؤول أميركي رفيع مقارنة بين ممارسة الصهيونيّة (محصورة أميركيّاً في الضفة الغربيّة فقط) وممارسات الفصل العنصري في الجنوب الأميركي في الماضي. لم يستعمل كيري مصطلح أبارثيد لكنه أوحى بذلك. ٣) هذه أوّل مرّة يستعمل فيها مسؤول أميركي مصطلح «النكبة»، واستعمال المصطلح يزعج الصهاينة، ولهذا فإن الإدارات الأميركيّة تتجنّب استعماله في اللغة الرسميّة. لكن جون كيري استعمل المصطلح لكن — مرّة أخرى — ضعف تسجيل هذه السابقة سياسيّاً يكمن في توقيتها، إذ أنها تأتي في الأيام الأخيرة من إدارة أميركيّة تخلفها إدارة من الحزب المعارض لها.
لكن خطبة كيري الطويلة تضمّنت معلومات جديدة لم تعلّق عليها الصحافة الغربيّة أو العربيّة (من الملحوظ أن الصحافة العربيّة — الموالية بمعظمها للنظام السعودي والقطري — حاولت جاهدة أن لا تولي أي أهميّة لتغطية تصويت مجلس الأمن أو لخطبة كيري لأنها لا تريد أن تغضب الرئيس الأميركي المُنتخب، ولأنها تعتمد في تحالفها السرّي والعلني مع العدوّ الصهيوني على سياسة المهادنة التي قادت تركيا إلى الإخلاف بوعودها هي عن شروط إعادة التطبيع مع العدوّ، والتي لم يلبِّ منها العدوّ إلا تعويضاً ماليّاً رمزيّاً). فقد حاول كيري لفت نظر دولة الاحتلال إلى تغيرات جسيمة في سياسة الأنظمة العربيّة (تعمد الصحافة الغربيّة إلى اختزال كل الدول العربيّة بالدول الخليجيّة ثم تعتمد على اختزال الشعوب العربيّة بطغاة الخليج تسهيلاً لأغراض التعميمات ولتسويغ سياسات التحالف الأميركي مع دول الخليج). فخطبة كيري أخرجت إلى العلن، وللمرّة الأولى، معلومات تبدو أنها بنوداً سريّة — أو بنوداً جديدة معدّلة — على مشروع «السلام العربي» مع دولة العدوّ. فيقول كيري إنّه بناء على أوقات طويلة قضاها مع القادة العرب، أنه تيقّن أنهم — أي القادة العرب — مستعدّون «لعلاقة مختلفة جذريّاً مع إسرائيل». هذا يعني أنهم وعدوا بما يتخطّى وعود التطبيع مقابل الانسحاب من بعض مساحة ٢٣٪ من باقي فلسطين. وأضاف كيري موضّحاً أنّ العرب وعدوا «ليس فقط بتطبيع العلاقة بل بالعمل في العلن لضمان هذا السلام عبر تعاون أمني إقليمي كبير». وهذا الكلام يلمّح إلى ضمانات جديدة تعدها الحكومة السعوديّة، ومَن يسير وراءها من الطغاة الغرب، من أجل حثّ إسرائيل على قبول السلام الرسمي. لم يكتف كيري بهذه الفقرة عن الوعود العربيّة بل أضاف من عنده: «إنها (أي الاستعدادات والمكافآت العربيّة الرسميّة) تنتظر. إنها هناك».
وأضاف كيري فهماً أو بنداً جديداً لمبادرة السلام العربيّة إذ انه قال إن «مبادرة السلام العربيّة تتصوّر أيضاً أمناً متطوّراً لكل المنطقة. إنها تتصوّر إسرائيل كشريك في هذه الجهود عندما يُصنع السلام. هذه منطقة حيث ينظر العالم العربي وإسرائيل إلى ربما أكبر لحظة تحوّل محتمل للشرق الأوسط منذ ولادة إسرائيل في عام ١٩٤٨. في (وجود) سلام إسرائيلي - فلسطيني، فإن إسرائيل والولايات المتحدة والأردن ومصر — مجتمعة مع بلدان منظمة التعاون الخليجي — ستكون على استعداد وإرادة لتعريف شراكة أمنيّة جديدة للمنطقة، وستكون جذريّة بصورة مطلقة». ويضيف كيري في مقطع لاحق أن الدول العربيّة ستكون مستعدّة لمرحلة جديدة من التعاون المُعلن مع إسرائيل فيقول: «إن التحديّات الأمنيّة سيتم التعاطي معها من خلال ترتيب أمني جديد كليّاً، حيث تتعاون إسرائيل علناً مع دول عربيّة أساسيّة». ويذكّر كيري الإسرائيلي بفوائد هذا التعاون العربي مع إسرائيل فيذكر «المصالح المشتركة في مواجهة النشاطات المُقلقِلة لإيران».
إن أميركا، بحزبيْها، قلقة على إسرائيل. هذا هو فحوى الحنق والضيق الأميركي الرسمي من سياسات نتنياهو، والتي يجاريهم فيها قادة وأحزاب في دولة العدوّ. التقديرات الاستراتيجيّة للحكومة الأميركيّة، أو ما يتسرّب منها، تخشى من تناقص فكرة (لا) حلّ الدولتيْن. وهناك في الحكومة الإسرائيليّة مَن يرحّب بزوال إمكانيّة تطبيق فكرة الدولتيْن. وهناك أفكار صهيونيّة جديدة لـ«حلول» جديدة للصراع: تريد دولة الاحتلال أن تحافظ على كل المنطقة «جيم» — حسب تقسيمات أوسلو (أي نحو ٦٠٪ من أرض الضفّة) على أن تفاوض سلطة أوسلو على إقامة سلطة بلديّة — لا أكثر — على جزء من المنطقة «الف» و«باء». والحزبان الرئيسان في أميركا لا يتعارضان مع هذا التوجّه خصوصاً أن تقريع أوباما وكيري تشارك فيه الديموقراطيّون والجمهوريّون في الكونغرس. لكن أنظمة الخليج ستكون مستعدّة لإعلان النصر والتحرير بمجرّد أن تعرض إسرائيل عليهم حلّاً يمنحهم فرصة التطبيع. عندها، سترى أبو الغيط وهو يرحّب بالسفير الإسرائيلي عضواً مراقباً في الجامعة العربيّة (مع صلاحيّات التصويت على القرارات العربيّة المصيريّة). قد يتحقّق حلم شمعون بيريز على أيدي أنظمة الخليج في هذا العقد.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)