اختار وزير العدل، سليم جريصاتي، شعار «مكافحة الفساد» ليجدد طرح نقل صلاحيّات من رئاسة مجلس الوزراء إلى رئاسة الجمهوريّة. يدرك جريصاتي حساسية هذا الطرح، لذلك لم يقدّمه كمطلب فئوي ينطوي على تعديلات دستورية، وانما كفرصة سانحة تتمثل بوصول «الأقوى مسيحياً والأكثر تمثيلاً» إلى سدّة الرئاسة الأولى، لتصحيح خلل أوجده الطائف، ويعيق عمل أجهزة الرقابة، الملحقة برئاسة مجلس الوزراء، أي السلطة الإجرائيّة.
برأيه، ساهم هذا الخلل في وضع السلطة الاجرائية في موقع غير سوي، اذ باتت هي المسؤولة عن مراقبة عملها، عبر أجهزة تنشئها بنفسها. انطلاقا من ذلك، دعا الى إنشاء جهاز خاضع لـ»مؤسّسة» رئاسة الجمهوريّة، بعد أن استهل باستحداث منصب «وزير دولة لشؤون رئاسة الجمهوريّة». ومهمّة هذا المؤسسة تطبيق القسم والحفاظ على الدستور ومكافحة الفساد، على أن تكون مستقلّة تتبع لها السلطات الرقابيّة، ويشرف عليها الرئيس ويحميها من التدخلات السياسيّة والمذهبيّة، ما يعطي الرئاسة معناها، وفق ما وصفه بـ»روحية الطائف»، ويعطي فرصة لتصحيح المسار وتحرير أجهزة الرقابة والمحاسبة وتحصينها وتحقيق استقلاليتها.
جاء كلام جريصاتي في ندوة نظّمها «مركز الدراسات والأبحاث» في التيار الوطني الحرّ، وشارك فيها رئيس التفتيش المركزي القاضي جورج عوّاد، وحملت عنوان «مؤسّسات الرقابة مدخل لمكافحة الفساد».
ولفت جريصاتي إلى عدم الاتزان في القوانين الرقابيّة. فاعتبر ان جعل الأجهزة المُناطة بتنفيذ الرقابة مُرتبطة مباشرة بالرئاسة الثانية نتجت عنه تجاذبات سياسيّة عطّلت، على سبيل المثال، عمل التفتيش المركزي منذ سنتين، وعجزت حتى اليوم عن إيجاد مخرج للتعطيل. ويُضاف إلى ذلك المذهبيّة التي تعدُّ أبرز أسس النظام اللبناني، وتعطّل بدورها، بما لها من نفوذ، المحاسبة عبر تحصين المرتكبين.

ينطلق جريصاتي من ضرورة إعطاء رئيس الجمهوريّة صلاحيّات تتيح له الإيفاء بقسمه

وانطلق من مبدأ استقلاليّة أجهزة الرقابة لإعطاء رئيس الجمهوريّة صلاحيّات تتيح له الإيفاء بقسم اليمين الدستوريّة، التي يؤدّيها وحده في الجمهوريّة اللبنانيّة، وذلك عبر مدّه بالوسائل، ومنها ربط أجهزة الرقابة بالرئاسة بهدف حماية الدستور ومكافحة الفساد الإداري، فلا يبقى دوره محصوراً بتلقي التقارير الصادرة عن هذه الأجهزة. ويجتهد جريصاتي في تفسير «الطائف» ليشير إلى أنه اتفاق فصل مؤسّسة رئاسة الجمهوريّة عن السلطة الإجرائيّة ولم يجعلها جزءاً منها، وأن رئاسة الجمهورية ليست موقعاً رمزيّاً، ولو أن صلاحيّات الرئيس محدودة بين حدّي التشريف ومسؤوليّة القسم. معتبرا ان الرئاسة موقع تناط به صلاحيّات حماية الدستور، ووحدة الوطن، وحقوق الناس، ومراقبة أعمال المؤسّسات العامّة.
تشمل أجهزة الرقابة اللبنانيّة: 1ــــ مجلس الخدمة المدنيّة المُناطة به صلاحيّة تعيين الموظفين وتحديد ترقياتهم وتعويضاتهم وتأديبهم وصرفهم من الخدمة. 2ــــ ديوان المحاسبة كجهاز إداري وقضاء مالي يُعنى بالسهر على الأموال العموميّة، ومراقبة استعمالها كما الفصل في قانونيّة استعمالاتها، إضافة إلى محاكمة المسؤولين. 3ــــ التفتيش المركزي باعتباره سلطة رقابيّة مُسلطة على الإدارات والمؤسّسات العامّة والبلديّات بواسطة التفتيش، بهدف تحسين العمل الإداري وتنسيق الأعمال المُشتركة بين الإدارات العامّة.
عندما أُنشئت هذه الأجهزة في عهد الرئيس فؤاد شهاب، كان الهدف منها تحرير الإدارة العامّة من سطوة السلطة السياسيّة، وإخضاعها لسلطة القانون وتحصينها في ممارسة مهماتها، بحسب القاضي عوّاد. إلّا أن ما يحصل اليوم يجعلها مرهونة لإرادة هذه السلطة بالكامل، على رغم وجود آليات مُحدّدة في قانون إنشائها، تعطيها صلاحيّات واسعة، وتجعلها أحياناً أقوى من الوزير نفسه.
يقدّم عوّاد مجموعة من الأمثلة، ليشير إلى أن القوانين ليست نافعة ما دامت الأخلاق مفقودة، أو أكثر تحديداً، ما دام الفساد السياسي يلقي بثقله على أداء الإدارة. ويعود إلى عام 2012 عندما أصدر التفتيش المركزي قراراً، بقي في ادراج مجلس الوزراء، يوصي بالنظر في الوضع الوظيفي لعبد المنعم يوسف لجهة جمعه بين وظائف مدير عام الاستثمار والصيانة في وزارة الاتصالات، ورئيس مجلس إدارة هيئة أوجيرو ومديرها العام، كون الجمع بين هذه الوظائف يؤدّي إلى تضارب في الصلاحيّات بين سلطة الوصاية الإداريّة (الإدارة العامّة للاستثمار والصيانة) والهيئة الموصى عليها (أوجيرو)، لا سيما في ما يعود إلى تنفيذ العقود التي تبرمها الوزارة مع الهيئة. يُضاف إلى ذلك تجميد كلّ الملفات الماليّة المتعلّقة بهيئة «أوجيرو» في المفتشيّة العامّة الماليّة منذ 2009، وعدم تحريرها أو التحقيق فيها إلّا عام 2016، مع خروج فضيحتي التخابر غير الشرعي والـ»غوغل كاش» إلى العلن. كما سلّط الضوء على ضرورة إعطاء استقلاليّة لأجهزة الرقابة، أولاً كون السلطة القضائيّة تتساهل مع حالات فساد مُحالة إليها بما يجعل الفساد الإداري مستشرياً أكثر، ويدفع الموظّف الفاسد إلى الإفلات من العقاب، وثانياً كون السلطة السياسيّة هي من تفعّل دور أجهزة الرقابة في مكافحة الفساد، فإذا لم تتوافر النيّة فمن غير المجدي استحداث أجهزة لتحقيق ذلك.