لم يكن انتخاب الرئيس ميشال عون امرار استحقاق دستوري فحسب، شأن ما يقتضي ان يكون في كل مرة تنتهي ولاية رئيس للجمهورية كي تخلفها ولاية اخرى. لو كان الامر كذلك لما تطلّب انتخابه 45 موعداً لجلسة انتخاب، لم تحدث سوى في الموعد 46، ولا كان احتاج الانتخاب الى اكثر من سنتين ونصف سنة وبضعة ايام، الى 888 يوماً من الشغور.
كان الانتخاب تسوية سياسية نقلت فريقي قوى 8 و14 آذار الى داخل الحكم على نحو متكافىء. لم يكونا كذلك مرة مذ ابصرا النور في شارع وجهاً لوجه مع شارع آخر عام 2005: ليس الامر فحسب في رئيس للجمهورية من قوى 8 آذار في مقابل رئيس للحكومة من قوى 14 آذار، بل ايضاً رئيس للجمهورية للمرة الاولى يحمل معه الى الحكم برنامجاً سياسياً هو برنامج حزبه هو بالذات.
إنتخب الرئيس رينه معوض لمهمة محددة هي تطبيق اتفاق الطائف. ثم انتخب الرئيس الياس هراوي للهدف نفسه، لكن في ظل قبضة سورية تفرض تصورها له. ثم انتخب الرئيس اميل لحود لتغليب القبضة السورية على تطبيق ذلك الاتفاق، فلم يؤتَ في عهده على ذكر اتفاق الطائف سوى في كل مرة حُكي عن المعاهدة مع سوريا والاتفاقات الثنائية بين البلدين. بدوره الرئيس رفيق الحريري اتى الى الحكم حاملاً مشروعاً اقتصادياً اعمارياً فحسب، قبل ان يصبح بعد انتخابات 1996 ــــ وبدرجة أولى بعد انتخابات 2000 ــــ مشروعاً سياسياً مرتبطاً بطموحاته وقدراته. كلا رئيسي الجمهورية ابان ترؤسه الحكومات لم يحملا مشروعاً سياسياً. عندما رجّح الحريري كفته على هراوي كانت سوريا وراءه، او في احسن الاحوال راضية بما يفعل. وعندما اشتبك مع لحود كانت كذلك وراء الاخير ضده هو. ثالث رؤساء ما بعد اتفاق الطائف انتخبته تسوية الدوحة، فإذا الرجل لا يحمل هو الآخر مشروعاً سياسياً، مكتفياً بالتفرّج على التسوية التي صنعها الزعماء الذين ذهبوا الى قطر، فطبقوها من دونه، وانقضّوا عليها من دونه، من خلال الحكومات الاربع المتعاقبة في عهده، في ظل تسوية الدوحة.

للمرة الاولى منذ 2005 رئيس الجمهورية، وليس الحكومة، مَن يدير الحكم


وخلافاً لعون الذي جاء انتخابه شرطاً للتسوية الاخيرة الغامضة على الاقل حتى الآن، فإن اتفاق الدوحة هو الذي جاء بالرئيس ميشال سليمان ليس لتطبيقه، بل السهر على توازن القوى السياسي الناجم عن هذا الاتفاق وتحديداً الصراع السنّي ــــ الشيعي. وهو ما فسّر في محطتين متفاوتتين انقلاب المواقف عليه: انقلبت عليه قوى 14 آذار عرّابة ترشيحه عندما أيّد وصول الرئيس نجيب ميقاتي الى رئاسة الحكومة ضد الحريري، وانقلبت عليه قوى 8 آذار عندما نعت ثلاثية حزب الله بالمعادلة الخشبية.
ما بين عامي 2005 و2016 تنافس فريقا 8 و14 آذار في الوصول الى الحكم، من غير ان يتمكن اي منهما من ان ينجح في وضع السلطة برمتها بين يديه: مرة احدهما فيها والآخر على هامشها او خارجها في المعارضة كحكومتي الرئيسين فؤاد السنيورة الاولى ونجيب ميقاتي الثانية، ومرة كلاهما في حكومة اتحاد وطني طغت عليها الشكوك والثقة المفقودة المتبادلة كالحكومة الاولى للرئيس سعد الحريري، اذ في مقابل صلاحية رئيسها باسقاطها ساعة يشاء، احتفظت المعارضة بثلث +1 كي تسقطها هي بدورها عندما تشاء، وهو ما فعلته. كمنت المشكلة على مرّ الحكومات الخمس التي سبقت الحكومة الحالية، في ان فريقي 8 و14 آذار كانا في ظل رئيسين للجمهورية احدهما معطوب الدور كلحود، والآخر لم يرد ــــ لأنه الرئيس التوافقي ــــ اي دور سوى في السنة الاخيرة من الولاية كسليمان فلم يرضِ هذا او ذاك.
هذه المرة، في ظل الحكومة الحالية ــــ بالافرقاء انفسهم مذذاك ــــ لم تعد هي مَن يحكم البلاد على غرار السنوات الاحدى عشرة المنصرمة، بل ثمة متسع من المكان ــــ اكثر مما كان يُسمح به في ذلك الحين ــــ لرئيس الجمهورية. في الايام المئة الاولى في ولاية عون، ثمة ما في الرجل فرضه على معادلة الحكم والافرقاء في آن:
1 ــــ عندما قال انه يتمسك بتطبيق صلاحياته الدستورية، كموقفه من رفض توقيع مرسوم عادي بدعوة الهيئات الانتخابية، لم يسطُ على اختصاص لم يكن له، بل لم يُسمح لمَن كان قبله ان يستخدمه بذريعة حياد الرئيس. لم ينبش عون صلاحية ميتة، بل اكد حقاً غير منقوص في استخدامها كلما اراد تسجيل موقف اعتراضي لا يسع احد الاعتراض عليه او اهماله او القفز فوقه. وهو ما فعل. وهي الصلاحية نفسها التي اثارت ابان حكومة الرئيس تمام سلام، في حقبة الشغور، جدلاً مستفيضاً حينما أصر وزراء على يشمل توقيع المراسيم العادية الوزراء الـ24 جميعاً كون المرسوم العادي صلاحية اختصاص مباشر لرئيس الجمهورية غير مقيّد بمهل ملزمة، ليس لرئيس الحكومة او سواه تجاهلها، واعتبار وصفها كالمراسيم المعروضة على مجلس الوزراء.
2 ــــ في الكلام العالي النبرة الاحد عن سلاح حزب الله والحاجة المستمرة اليه كما تأكيده عدم جهوز الجيش لمقاومة اسرائيل على النحو المتوخى، لم يقل سوى ما اعتاد ان يقوله من منصة الرابية كل ثلثاء، بتأكيد تمسكه بتحالفه مع حزب الله على انه مقاومة اولاً. تالياً لم يعنِ، بالنسبة اليه في احسن الاحوال، الوصول الى رئاسة الجمهورية التحوّل رئيساً توافقياً كي لا يتحدّث سوى في ما يرضي هذا الفريق او ذاك. الرجل نفسه، في الخيارات نفسها التي تمسي اليوم اكثر وضوحاً اذ يعبّر عنها رئيس الدولة كي تكون جزءاً لا يتجزأ من سياستها. تكلم عن سلاح مقاومة، لا عن تنظيم مسلح، عن اهالي الجنوب لا عن ميليشيا غير شرعية.
3 ــــ للمرة الاولى، اكثر من اي وقت مضى منذ عام 2005، يبدو رئيس الجمهورية اول المعنيين بالسياسة الخارجية للبنان التي ينتظر اتخاذ اي موقف منها في الغالب اجتماع مجلس الوزراء. فالرئيس المؤتمن على المادة 52 بالتفاوض، هو نفسه الرئيس القادر على تحديد ملامح السياسة الخارجية للبنان. لم يتغيّر موقفه من سوريا مقدار ما لم يتغيّر موقف الحريري منها ايضاً. وهو ما يصحّ على الموقف ايضاً من حزب الله.
4 ــــ لم يقل رئيس الجمهورية الى الآن اي قانون للانتخاب يريد، ما خلا اظهار ميله الى التصويت النسبي، من غير ان يكون هذا الرأي ملزماً مجلس الوزراء أو مجلس النواب او الكتل النيابية الرئيسية حتى. الا انه قال كلاماً قاطعاً هو ان قانون الانتخاب يتقدم الانتخابات النيابية. من دونه لا تحصل تلك. وكي لا يتحوّل اسير اللعبة التي درجت عليها الكتل منذ عام 2012 بإهدار المهل كي تعطل الانتخابات النيابية، تارة بالمفاضلة بين القانون النافذ والقانون الجديد، وطوراً بالمفاضلة بين القانون النافذ والتمديد، وصولاً الى المفاضلة بين التمديد والفراغ، اجتاز رئيس الجمهورية كل المسافة تلك بين عامي 2012 و2013 لبلوغ اول تمديد ثم الثاني السنة التالية، وقال بالفراغ. وسواء عُد موقفه هذا تهديداً مباشراً به، او كما ابصره الرئيس نبيه بري حضاً على استعجال قانون جديد للانتخاب، فبالتأكيد في حساب رئيس الجمهورية لا انتخابات بلا قانون جديد طال الوقت او قصر. هذه المرة رئيس الدولة يضع المبادرة بين يديه، ولا يكتفي بالتشاكي لدى المجلس الدستوري.