تتشبث المرأة الأربعينيّة بابنتها الصغيرة. تعتصرها في عيادة الطبيب، فتجد الفتاة بين الفينة والأخرى طريقاً لتنزلق من بين ذراعي أمّها فتلاحقها الأخيرة بعبارة «تقبريني»، يتكرر الأمر، حتى يصبح الموضوع ثقيلاً على سمع المنتظرين. عندما تدخل الأم مع ابنتها ليعاينها الطبيب، تقتنص جدّة الطفلة الفرصة بسرعة، لتخبر الحاضرين أنّ «البنت تلقيح»، وكأنّها أرادت تبرير تصرّف ابنتها. من منظار طبّي، وعاطفي ربما، العلم منح هذه المرأة فرصة الأمومة. أعطاها ربما كل ما حلمت به يوماً. فهل من العدل أن نحرم زوجين من الأبوة والأمومة، بعدما أصبح بإمكان التطوّر العلمي أن يعطيهما هذه الفرصة؟ أم أنّ رغبة زوجين في الإنجاب لا تكفي ليصبح الموضوع شرعياً أو قانونياً، في ظلّ وجود محاذير كثيرة في الموضوع، عليهما التنبّه لها؟
في الآونة الأخيرة، تجرى محاولات حثيثة لإعادة طرح مختلف الأسئلة حول التلقيح الاصطناعي، بسبب التجاوزات الكثيرة التي تحصل داخل عيادات الأطباء المغلقة. محاضرات وندوات يجريها المختصّون، إحداها تنظّمها اليوم، «جمعية اللبنانيات الجامعيات» حول «التقنيات الجينيّة وتأثيراتها الاجتماعية والأخلاقية» في بيت الطبيب عند الساعة الخامسة مساء. مسؤولة العلاقات الدولية في الجمعية، والاختصاصيّة في علم الخلايا ـــــ الأمراض والاختبارات الجينيّة، جورجيت موردوفوناكي كرم، تتخوّف كثيراً من انتشار عمليات أطفال الأنابيب وتأثير التلقيح الاصطناعي على المجتمع والمرأة خصوصاً، في ظلّ عدم وجود قانون لبناني ينظّم العمليّة. عملت كرم على «ربع بند» في القانون الصادر عن الأمم المتحدة لتنظيم التلقيح الاصطناعي. وعمل بعدها «المجلس الطبي الأخلاقي اللبناني» على إعادة كتابة قانون الأمم المتحدة بصيغة تلائم الواقع اللبناني. أرسل المجلس القانون إلى مجلس الوزراء بين عامي 2002 و2003، فاعتبر هذا الأخير أنّ مشروع القانون «مقبول شرط مراجعة رجال الدين»، سلك المشروع طريقه من بعدها إلى مجلس النواب ونام في أدراجه بما أنّ الموضوع هو «نار وما تحرق إيدك فيها»، بحسب كرم.
لكن في انتظار خروج مشروع القانون من الأدراج، من ينظّم الموضوع ويمنع المخالفات والتجاوزات التي يكثر الحديث عنها؟
أولى المخالفات التي يعاقب عليها قانون الأمم المتحدة، وهي الأكثر شيوعاً اليوم، بيع الحيوان المنوي أو البويضة. إذ من الناحية القانونيّة، يجب أن يتم وهبهما لا بيعهما. لكن بعض الشبّان يلجأون إلى بيع حيوانهم المنوي عن طريق الطبيب، الذي قد يبتزّ الزوجين لاحقاً.
بالنسبة إلى جورجيت كرم، يجب توعية الناس على الموضوع من خلال الإعلام والمحاضرات. بديهيّات الأمر بالنسبة إليها أن لا تتمّ عمليّة التلقيح إلا بين زوجين، يكونان قد خضعا لكل الفحوصات الضروريّة قبل البدء بالعمليّة، وأن لا يتمّ «استيراد» حيوان منوي مثلاً لزرعه في رحم امرأة لبنانيّة، إذ إنّ هذا الأمر ممنوع في القانون الدولي بما أنّه يؤدّي إلى خلط الأعراق.
أكثر ما تخاف عليه كرم في هذه العمليّة، هما الطفل والمرأة. فكيف سيتمّ التعامل مع هذا الطفل، وهل يجب إخباره بأنّه «طفل أنبوب»؟ وكيف ستتعامل معه الأم إذا ما اكتشفت في مرحلة تكوين الجنين أنّه مشوّه؟ هل ترميه وتطلب غيره، بما أنّه ما زال اختباراً بالنسبة إليها؟ وهل نشرّع خلق طفل أنبوب لأبوين مثليين؟ كلّها قضايا يجب أن يحلّها قانون واضح يصدر عن الدولة اللبنانية يعالج ما هو موجود ويستبق أموراً أخرى.
تهتمّ كرم بموضوع المرأة الشرقية خصوصاً، بما أنّها، برأيها، «تبقى الحلقة الأضعف بسبب ضعف ثقافتها في هذا الموضوع». إذ إنّ طفل الأنبوب، يسهّل على الأب عمليّة التهرّب من المسؤوليّة تجاهه إذا ما حصل طلاق بين الزوجين. الرجل المسلم مثلاً يمكنه أن يتملّص من موضوع النفقة عبر اتهام زوجته بالخيانة، التي يمكن أن يثبتها بفحص الحمض النووي إذا لم يكن الحيوان المنوي الذي زرع في رحم زوجته عائداً له. في هذه الحالة تشير كرم إلى ضرورة إبرام عقد بين الزوجين لدى كاتب العدل، إذا ما قرّرا إنجاب طفل عن طريق التلقيح من خلال زرع حيوان منوي لمتبرّع مجهول في رحم الزوجة. لكن لا يمكن أن يتمّ هذا العقد طبعاً إلا إذا وُجد قانون لبناني يساعد على تنظيم الموضوع. ولا يبدو أنّ هذا الأمر سيحدث قريباً. إذ إنّ القانون يحتاج إلى توافق رجال الدين من مختلف الطوائف على صيغته، وهم حالياً يفضّلون غيابه كي يكونوا المرجع لكل زوج يريد القيام بالعمليّة، بما أنّ الموضوع شديد الحساسية.
الكنيسة هي «في المبدأ والمطلق ضدّ التلقيح الاصطناعي» كما يقول مدير المركز الكاثوليكي للإعلام عبدو أبو كسم، شارحاً أن «الإنجاب يجب أن يكون نتيجة علاقة حب بين الرجل وزوجته، وبالتالي إذا انتفى الحب والعلاقة الجنسيّة للإنجاب فلا تكون هذه العملية مسيحيّة». ويضيف إنه «في عمليّة التلقيح يتمّ تلف عدد من الحيوانات المنويّة والبويضات، وهذا يعدّ قتلاً بحسب الكنيسة. كما أنّه إذا تمّت العملية عبر زرع حيوان منوي لمجهول في رحم المرأة، يعدّ الأمر بحكم الخطيئة». أمّا مستشار مشيخة العقل غسان الحلبي فيقول إنّ الطائفة الدرزيّة «تستأنس بالفتاوى الصادرة عن المؤتمرات الإسلاميّة الشرعيّة. خاطر الشيوخ الكبار يأنف من هذه المسألة على قاعدة الحفاظ على الانسجام في النظام الطبيعي للأشياء، وخاصة نظام التناسل.
أمام هذا الخاطر العام، العرفي، غير المكتوب، تغيب الفتاوى ومجمل الناس تتعامل مع هذا الخاطر بطرق مختلفة». ويضيف الحلبي «إنّ موضوع اللجوء إلى بنك الحيوانات المنويّة والبويضات مرفوض كلياً». المذهب السني يتبع قرارات «مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي». ويرى المجلس «أن حاجة المرأة المتزوجة التي لا تحمل، وحاجة زوجها إلى الولد، تعدّ غرضاً مشروعاً يبيح معالجتها بالطريقة المباحة من طرق التلقيح الاصطناعي». هناك أسلوبان في التلقيح، جائزان بالنسبة إلى المجلس، الأول الذي «تؤخذ فيه النطفة الذكرية من رجل متزوج، ثم تحقن في رحم زوجته نفسها بطريقة التلقيح الداخلي»، والثاني الذي «تؤخذ فيه البذرتان الذكريّة والأنثويّة من رجل وامرأة زوجين، أحدهما للآخر، ويتم تلقيحهما خارجياً في أنبوب اختبار، ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة نفسها صاحبة البويضة».
وأخيراً يقول المفتي الجعفري الشيخ أحمد طالب إنّ «أصل التلقيح لدى المذهب الشيعي جائز. لكن النقاش هو حول الطفل الذي يأتي من حيوان منوي أو بويضة لا تعود للزوجين. فابن من يكون الطفل؟». برأيه «الطفل هو ابن صاحب الحيوان المنوي وصاحبة البويضة. لكن، هناك نقاش اليوم حول ما إذا كانت الأم هي صاحبة البويضة أو الرحم».



تحديد الأمراض الوراثية

بعيداً عن جدل إرساء قانون ينظّم عملية التلقيح الاصطناعي في لبنان، يرى رئيس قسم الجراحة النسائيّة والتوليد في مستشفى «belle vue ـــــ بلفو» شادي فقيه، أنّه يجب التركيز أيضاً على التطورات العلميّة الجديدة التي طرأت على عمليّة طفل الأنبوب. فأصبح بالإمكان تحديد الأمراض الوراثية التي يحملها الجنين قبل نقله إلى رحم المرأة. ويضيف «إذا كان أحد الأطفال بحاجة إلى عملية زرع نخاع شوكي مثلاً ولا يستطيع أحد من إخوته مساعدته، يمكن أن نكوّن طفل أنبوب يستطيع يوماً ما أن يعطي نخاعه الشوكي لأخيه، من دون أن يتأذى أيّ منهما».
كما أن هناك تطبيقات جديدة لعملية أطفال الأنابيب للمحافظة على خصوبة النساء اللواتي يخضعن لعلاج كيميائي بسبب إصابتهنّ بأحد السرطانات، إذ يحفظ الطبيب جزءاً من المبيض، عبر تجميده، على أن يعيده سالماً بعد الانتهاء من العلاج أو عندما ترغب السيدة في الإنجاب.