تستمر دولة الإمارات العربية المتحدة في مراكمة رصيد القوة في جنوب اليمن على حساب الدور السعودي الآيل إلى الركود والتراجع والانحسار. ورغم النفي المتكرر للقادة الإماراتيين بشأن منافسة الدور السعودي في اليمن، فإن علامات التزاحم والتفرد بالقرار وصراع أجنحة السلطة الموالية للطرفين تدحض ادعاء النفي والزعم بطيب العلاقة وخلوّها من التنافس، وصولاً إلى الإقصاء.
وفيما لا يزال وفد المحافظات الجنوبية اليمنية، المؤلف من الشخصيات المدعومة من الإمارات (محافظ عدن عيدروس الزبيدي، ومدير أمنها شلال علي شايع) يجري مفاوضات في الرياض مع الأطراف المحسوبة على السعودية (حزب «الإصلاح» الإخواني والمحسوبون على الرئيس المستقيل عبد ربه منصور هادي) منذ أكثر من أسبوع، تحاول الرياض، وهي راعية المفاوضات، فرض رأيها في دمج قوات «الحزام الأمني» وبقية الفصائل المدعومة من الإمارات ضمن وزارة الداخلية المحسوبة على «الإخوان».
وتريد المملكة أن يكون الدمج مرفقاً مع إحداث تغيير في سياسة الوزارة والعمل على إحداث قيادة مشتركة، لكن النتائج التي تعمل على تحقيقها حتى هذه اللحظة تصطدم بجدار سميك من أبو ظبي عبر أدواتها في الساحة اليمنية، والأخيرة ترفض حتى الساعة التنازل للطرف الآخر أو حتى قبول الحلول الوسط.
وينسجم موقف الإمارات مع قوة الدفع الإضافية التي حصلت عليها من إدارة البيت الأبيض إثر مشاركة قواتها الخاصة في الضربات والإنزالات الأميركية الأخيرة على مواقع مفترضة لتنظيم «القاعدة»، وهو ما زاد رصيدها في الداخل اليمني، فصرفته بالتشدد وبالجرأة في تكريس خطتها وأجندتها الخاصة على حساب الدور السعودي، الأمر الذي ظهر أخيراً في المزيد من الركود والهرب من مواجهة الاستحقاقات، كما أبدت الرياض عجزاً واضحاً في الحفاظ على مكتسبات أتباعها في الجنوب.
في سياق آخر، منيت الميليشيا المدعومة من الإمارات في جبهة الساحل الغربي بانتكاسة كبيرة خلال الأيام الأخيرة، إذ وقعت إحدى كتائب لواء «الحزم»، الذي يقوده العميد عبد الغني الصبيحي، في مكمن مميت نصبته قوات الجيش و«اللجان الشعبية»، التي حاصرت الكتيبة المذكورة من كل الجهات شرقي مدينة المخا لمدة عشر ساعات، كانت حصليتها مقتل حوالى مئة جندي وضابط؛ بينهم قائد عمليات اللواء العقيد فضل الحلقي والعقيد أحمد مقراط، إضافة إلى جنود وضباط من يافع والضالع وردفان والصبيحة لم يعرف مصيرهم حتى اللحظة.
وقد عُلم أن قرابة مئتين بين ضابط وجندي مفقودون، ويرجح أن قسماً كبيراً منهم وقع في الأسر. وعندما حاولت قيادة اللواء إرسال كتيبة ثانية وقعت هي الأخرى في كمين ثانٍ ليرتفع عدد الإصابات في صفوف اللواء. وقد عبّرت وسائل إعلام جنوبية محسوبة على التحالف عن المشهد بقولها إن جبهة الساحل الغربي شهدت فراراً جماعياً للضباط وللجنود باتجاه عدن، الذين رووا عن الساعات العصيبة التي قضوها من دون أن تتمكن طائرات «التحالف» من التدخل بسبب استفادة الجيش و«اللجان» من التضاريس الطبيعية.

لم تستطع السعودية
الحفاظ على مكتسبات
فريقها في الجنوب


رغم ذلك، لم تتوقف القوات الإماراتية عن إنزال المزيد من المعدات العسكرية واللوجستية عبر ميناء عدن، ثم تسليمها للفصائل الجنوبية المسلحة التابعة لها، تمهيداً لجولة ثانية من المعارك في الساحل الغربي. ورغم خروج عدد من الأصوات في الجنوب تدعو إلى رفض التجاوب مع المطالب الإماراتية بالخروج إلى جبهات القتال ضد الشمال، فإن القادة الجنوبيين المتعاونين مع أبو ظبي صار لديهم من الأدوات ما يكفي للدفع في تغيير الموازين وإجبار الشباب على الالتحاق بالجبهات في الوقت المناسب، وذلك بالاستفادة من الإمكانات والقدرات المالية والإعلامية الهائلة المسخرة لهم.
في غضون ذلك، لم تنتهِ في عدن الإشكالات والتحديات وصراع أجنحة السلطة وغياب الخدمات الضرورية للناس حتى عمد مدير الأوقاف في المدينة، محمد الوالي، المعين من الوزير السلفي هاني بن بريك المدعوم إماراتياً، إلى إقالة نحو ثلاثين خطيباً وإمام مسجد دفعة واحدة، وكانت ذريعة الإقالة أن أولئك الخطباء محسوبون على حزب «الإصلاح»، لكن الحقيقة تخالف تلك الادعاءات، إذ إن بعضهم يتبعون الطرق الصوفية وثمة آخرون معتدلون ومستقلون.
وتأتي تلك الإقالات في إطار سياسة كم الأفواه وتغليب الرأي الواحد، في وقت كانت تعتبر فيه عدن ساحة للتنوع وللتعدد، وكان من العبث أن يتصور أي كان أن بإمكانه إقصاء الآخرين أو أن يتفرد بالساحة الدعوية أو الفكرية أو الثقافية بمفرده، مع العلم بأنه حتى في زمن النظام السابق كان تنوع الانتماءات شأناً شخصياً وطبيعياً في ظل تنوع المجتمع الديني والمناطقي والقبلي، ولم تكن تصنف المساجد وفقها.
بعد فوز الإمارات بعدد من الملفات الداخلية في جنوب البلاد ونجاحها في تكبيل يد ميليشيا هادي وإضعاف منظومته في دوائر الدولة العميقة، يتمدد نشاط أبو ظبي إلى بقية المؤسسات الحكومية والخاصة للتطويق الكامل على تحالف هادي وحزب «الإصلاح»، وهذه المرة جاء دور المساجد باتخاذها ساحة للصراع المذهبي والفئوي.