في ضواحي مدينة نيويورك، على لسانٍ من الأرض يمتدّ في البحر قرب لونغ ايلاند، تجد صفوفاً من القصور المبنية على الواجهة البحرية، كلفة كلٍّ منها تقدّر بملايين الدولارات، وهي كلها ملكٌ لموظّفي شركةٍ واحدة: «رينيساس تكنولوجيز»(وبحسب «بلومبرغ»، يسمّي السكّان منطقة «اولد فيلد» حيث تتوزّع هذه القصور والمنازل «ريفييرا رينيسانس»). «رينيسانس» شركة مالية تدير ما يسمّى بـ»محفظة تحوّط» (hedge fund)، أي صندوق يضع المستثمرون فيه أموالهم، فيقوم خبراء هذه الشركة بإدارتها والمراهنة على تغييرات البورصة وتحقيق المكاسب ــــ وينال مديرو هذه الصناديق، بالمقابل، نسبةً معتبرة من الأرباح.
في العقود الأخيرة، مع هيمنة «القطاع المالي» في الاقتصاديات الغربية المتقدّمة على حساب غيره، أصبحت هذه الصناديق أثرى قطاعات الاقتصاد؛ والنّخبة التي تديرها حقّقت أرباحاً لا تصدّق وابتدأ، منذ الثمانينيات، عهدٌ جديدٌ في «وول ستريت» سماته الإسراف واستعراض الثروة والمال السّهل، وولادة عشرات البليونيرات «المجهولين» من رحم هذه العملية. «رينيسانس» يتميّز عن غيره من صناديق نيويورك بأنّه لا يشبه الصورة النمطيّة للتاجر في «وول ستريت»: أكثر موظّفي الشركة هم علماء حساب وكمبيوتر، وأكثر من ثلثهم يملك شهادات دكتوراه في مجاله وقد اجتذبت الشركة الكثير منهم من معاقل الأكاديميا ــــ وجعلتهم أثرياء.
كان «رينيسانس» أوّل صندوقٍ يستخدم النماذج الكميّة والحسابية للمراهنة على الأسهم والعملات. خلق العلماء برامج متطوّرة تلتقط التغييرات الطفيفة في مجمل نشاط السوق (والتي من المستحيل أن يلاحظها فردٌ أو يستنتجها خلال يومٍ واحد، لكمّ المعلومات التي يجب تحليلها)، و»تتنبّأ» بتغييرات قصيرة الأمد بناءً على عددٍ هائل من المتغيّرات (من بينها، مثلاً، أنّ السوق يميل للإنخفاض يوم الأربعاء، أو خلال عطلة معيّنة)، ثمّ تحدّد الأسهم التي تُباع بأقلّ أو أكثر من قيمتها، حتّى يراهن عليها الصّندوق ويكسب. هذا تبسيطٌ لمئات (وأحياناً آلاف) الصفقات التي تجري يومياً، والكثير منها يقرّره الكمبيوتر من دون تدخّل بشريّ. هذه البرامج التي تمّ تصميمها وتحسينها على مدى عقود هي الثروة الحقيقيّة لشركةٍ مثل «رينيسانس».
إن كان صندوق «رينيسانس»، المفتوح لجميع المستثمرين، معروفاً اليوم بحجمه الضخم وتحقيقه لأعلى معدّلات الأرباح (مترافقة مع رسومٍ باهظةٍ عليها يحتفظ بها مديرو الشركة)، فإنّ ما جعل من موظّفي «رينيسانس» عائلةً من الأثرياء لم تكن رواتبهم فحسب، بل «صندوقٌ أسود» اسمه «صندوق ميداليون» ممنوع الاستثمار فيه الّا لموظّفي الشركة ومديريها. معدّل الرّبح في «ميداليون» لا يصدّق، وهو قد قارب الخمسين في المئة سنوياً منذ إنشائه عام 1988، ليحقّق أكثر من 55 مليار دولار ربحاً صافياً خلال هذه المدّة. تقول «بلومبرغ» في تحقيقٍ عن الصّندوق انّك لو استثمرت ألف دولارٍ فيه عام 1988، لكان لديك اليوم ما يقارب الـ14 مليون دولار. إن كنت موظّفاً في هذه الشركة، فإنّ الرواتب والحوافز التي تنالها من عملك في «رينيسانس» قد تجعلك ثريّاً وموسراً، ولكن «ميداليون» هو ما يجعلك بليونيراً؛ ويؤمّن لك اليخت والطائرة الخاصّة والقصر على الشاطىء (من أسباب الحدّ من عدد المستثمرين في صناديق مثل «ميداليون» أنّ هذه الشركات تربح أساساً عبر تمييز ثغراتٍ واختلالاتٍ في السّوق واستغلالها، وكلّما زاد عدد المتنافسين والباحثين عن هذه الفرص، يتقلّص حجم الأرباح).

مموّل ترامب

اقتراح الموازنة الجديد الّذي قدّمه دونالد ترامب هو، على عكس الخطابات والتصريحات، الدليل السّاطع الأوّل أنّنا أمام رئيسٍ من طينةٍ مختلفة. الموازنة، كما وصفها صديق، هي «ثورية» ــــ وإن لن تتمّ، على الأرجح، الموافقة على الكثير من بنودها في الكونغرس. يريد ترامب فرض اقتطاعاتٍ ضخمة من ميزانية كلّ المؤسسات «المدنية»، من وزارة العمل الى وكالة البيئة والتعليم والأبحاث، بقدرٍ اجماليّ يزيد على الخمسين مليار دولار، مقابل زيادة الانفاق على الدفاع والجيش وقدامى المحاربين. بعض الإدارات، كالخارجية والعمل، ستخسر ما يقارب ثلث تمويلها (لا تفرض في العادة تخفيضاتٌ بهذا الحجم على مؤسسات ضخمة وقديمة، حتى في حالات الأزمة). سيتمّ قطع التمويل نهائياً عن العديد من البرامج الفيدرالية، ومن بينها الوقفية الوطنية للإنسانيات والوقفية الوطنية للفنون (موظّفو «المنظّمات غير الحكومية» في بلادنا ربّما لا يعرفون ذلك بعد، ولكن اقتطاع قدرٍ كبير من تمويل وزارة الخارجية ووكالة العون الأميركية يعنيهم مباشرة، وهم سيشعرون به في القريب).
إن كانت خطّة موازنة من هذا النّوع ترمي الى إبعاد الدولة عن أغلب مسؤولياتها «الاجتماعية» في الدّاخل، والاقتصار في الانفاق على الدّفاع (مترافقة مع تخفيضات ضريبية كبرى للأثرياء والشركات)، لا تبدو متّسقةً مع خطابات ترامب أثناء حملته الانتخابية عن الطبقة العاملة وضرورة تحسين أوضاعها و»خيانة» النّخب الحاكمة لها، الّا أنّها تشبه بالضبط نظرة أحد أهمّ مموّلي ترامب الى الاقتصاد والدّولة. نحن هنا نتكلّم على روبرت ميرسِر وعائلته، والعصبة الايديولوجية التي تحيط به ويموّلها، من ستيف بانون الى دايفيد بوسي الى كيلي آن كونواي (كلّهم يحتلون حالياً مناصب أساسية في ادارة ترامب). ميرسِر يقود شركة «رينيسانس» وهو، كالكثير من مدرائها، عالم كمبيوتر اجتذبه المؤسس الأول للشركة، جايمس سيمونز، من «آي بي ام» ليصبح بعد سنواتٍ مديرها التنفيذي. ميرسِر وعائلته هم من أهمّ مموّلي السياسة في اميركا اليوم، وهم يؤمنون بشدّة بفكرة «الدّولة الصّغيرة»، التي لا تتولّى غير مهمّة الدّفاع ولا تتدخّل في المجتمع، ولا تفرض الضرائب على الأثرياء، ولا تدعم ــــ على حدّ قول ميرسِر ــــ «الضعفاء» (أي الفقراء) على حساب «الأقوياء».
في العدد الحالي من مجلّة «نيويوركر» تحقيقٌ طويلٌ عن ميرسِر ودوره في حملة ترامب ونفوذه اليوم في البيت الأبيض. يقول التحقيق إنّ ميرسِر، الذي لا يختلط اجتماعياً ويتجنّب الكلام مع البشر، يحمل نظرة مادّيّة بحت الى الإنسانيّة: الإنسان هو كيانٌ ماليّ، تتحدّد قيمته بحسب قدرته المادّيّة التي تعرّف، بالتالي، تأثيره و»وجوده» في المجتمع. انت «موجودٌ» بقدر ما انت ثريّ، ولا عزاء للفاشلين. ميرسِر هو أهمّ مموّلي «اليمين البديل»، من موقع «بريتبارت نيوز» (الذي كان يزوره، في موسم الانتخابات، أكثر من عشرين مليون زائر فريد كلّ شهر) الى «معهد المحاسبة الحكومية» الذي أصدر عدداً كبيراً من الكتب والأفلام والتحقيقات المؤثّرة استهدفت بشكلٍ خاص هيلاري كلينتون ومنافسي ترامب الجمهوريين؛ وصولاً الى «كامبريدج اناليتيكس»، المؤسسة الإحصائية التي ساهمت في تخطيط استراتيجيات اليمين الأميركي.
بحسب «نيويوركر»، حاول ميرسِر أن يطبّق أنظمة التحليل التي يستخدمها في البورصة على المجال السياسي، وقد خرجت «كامبريدج اناليتيكس» بدراسة، عام 2014، تقول إنّ الجمهور الأميركي أصبح مستعدّاً لدعم مرشّحٍ «خارجيّ»، يعبّر عن غضبهم وخيبتهم من الطبقة السياسية ككلّ، جمهوريين وديمقراطيين. بعد أن شاهد ميرسِر الأرقام، وطالب بإعادة الاستطلاع للتيقّن منه، خرج «مشروع سميث» في السّنة ذاتها، وهو مشروعٌ يهدف الى ايجاد مرشّحٍ من خارج واشنطن، يتكلّم بلغة الانسان العادي («مستر سميث»)، ويدّعي انّه قادمٌ للإطاحة بالنخبة التقليدية بأكملها. من هنا، تقول المجلّة الأميركيّة، بدأت قصّة نجاح دونالد ترامب.

«سوبرمان» العصر الحديث

إن كان الاقتصاد النيوليبرالي الحديث قد أعطانا «وول ستريت» وقدرتها الماليّة، فإنّ التأثير السياسي لأناسٍ مثل ميرسِر مصدره قرارٌ من عام 2010 للمحكمة العليا الأميركيّة، سمح فعليّاً للأثرياء والشركات بتمويل السياسة والحملات الانتخابية بشكلٍ غير محدود. في السّابق، كان التمويل السياسي مرتبطاً بالتبرّع مباشرةً للمرشّح، وكان هناك سقفٌ للتبرّعات لكلّ فرد (حوالي عشرة آلاف دولار). كان بالإمكان الالتفاف على هذا السقف عبر أن يتبرّع رجل الأعمال باسمه واسم أفراد عائلته وموظّفيه، وتقوم الشركات الكبرى بخلق لوبيات تصنع مئات المنظّمات\ الواجهات لغرض تجميع التمويل تحديداً. غير أنّ قرار المحكمة العليا غيّر كلّ شيء. صار بإمكان أيّ رجلٍ ثريّ أن ينشىء منظّمة تدعم مرشّحاً معيّناً (طالما أنه لا يعطي المال الى حملته مباشرة) وأن يرفدها بعشرات ملايين الدولارات. منذ عام 2010، ازداد نفوذ كبار الأثرياء في واشنطن بشكلٍ هائل وأصبحوا يصنعون السياسة ويختارون المرشّحين، ولا يكتفون بدعمهم عبر إرسال الشيكات.
تقول «نيويوركر» انه أصبح هناك نوعان من متموّلي السياسة: أثرياء مثل زوكربرغ يدفعون خلال المواسم الانتخابيّة فحسب، بينما وجد آخرون مثل عائلة كوخ وميرسر وغيرهما أنّ الاستثمار الأجدى هو في تمويل مؤسسات ومراكز اعلامية والتأثير على الرأي العام على المدى الطويل، وأن تفرض ــــ طالما انّك ثري ــــ ارادتك مباشرة في السياسة، بدلاً من الاكتفاء بدعم مرشّحٍ ما. السّياسة الأميركية، بمعنى آخر، أصبحت تشبه العالم «المثالي» الذي يتخيّله روبرت ميرسِر: القوي والذكي والثري يفرض نفسه بماله، وتصبح ارادته ارادة الجماعة وأفكاره رأياً عاماً. مع فتح الباب على مصراعيه أمام التمويل السياسي، أصبح البليونير الأميركي يجمع، للمرّة الأولى، بين السلطة المالية والتأثير السياسي، أي انّه رجلٌ «منيع»، لا شيء يمنعه عن تحقيق ما يريد، طالما أنّ كلّ شيءٍ يُشرى بالمال.
لتوضيح ما نقصد، ولشرح معنى أن تنتمي الى هذه الفئة من البشر في عصر النيوليبرالية، ولفهم نظرتهم الى أنفسهم والى سلطتهم، سنقدّم بضعة أمثلة عن ميرسِر. ميرسِر يؤمن، مثلاً، بأن الإحتباس الحراري حجّة واهية، فموّل دراساتٍ وأبحاثاً تناسب هواه، وكاد أن يجعل من عاِلمه المفضّل (وهو عالمٌ في الكيمياء الحيويّة، ينكر الإحتباس الحراري) رئيساً لوكالة البيئة. بل أنّني اكتشفت أنّ «عريضة علمية» كنت أشاهدها باستمرار في مواقع مختلفة، تدّعي أنها تحمل تواقيع مئات العلماء وتشكّك بنظرية الاحتباس الحراري، هي من أفعال ميرسِر ايضاً (وقد كانت هذه العريضة، التي احتجّت عليها العديد من الهيئات العلمية، المقال الأكثر تداولاً على «فايسبوك» عن موضوع الاحتباس الحراري السنة الماضية). حين عرفت عائلة ميرسِر أن مخبزاً يعدّ كعكاً يحبّونه سيغلق، قاموا ببساطة بشراء المخبز. وحين ذهبت ابنة ميرسِر، ريبيكا، الى جامعة ديوك واعتبرت أن المدرّب في فريق كرة القدم يميّز ضدّها في الملعب على حساب الذّكور، قامت بمقاضاة الجامعة وحصلت على مليوني دولار (قارنوا ذلك بحياتنا وحدودنا وقدرتنا على الردّ على المظالم التي نتعرّض اليها، نحن «الناس العاديين»).