لا يزال الحديث عن تداعيات «مؤتمر أنقرة» مستمراً في الأروقة السياسية العراقية. فالمؤتمر، الذي عُقد في العاصمة التركية لعددٍ من قوى المكوّن السُنّي، يتزامن مع التسارع الكبير في معركة تحرير مدينة الموصل.فبعد أيّامٍ على عقد القوى نفسها مؤتمراً في مدينة جنيف السويسرية (15 شباط الماضي)، وبرعاية دولية لافتة، وبمشاركة المدير السابق للمخابرات الأميركية المركزية ديفيد بترايوس، ورئيس الوزراء الفرنسي الأسبق دومينيك دو فيلبان، ورئيس منظمة الطاقة الدولية السابق محمد البرادعي، كرّر المشاركون اجتماعهم، في الثامن من الشهر الحالي، برعاية إقليمية وبمشاركة خمس دول هي: تركيا، السعودية، قطر، الإمارات والأردن.

وكان لافتاً في المؤتمر المشاركة الواسعة لمختلف القوى السُنّية، سواء تلك المعارضة منها للعملية السياسية أو المشاركة فيها، إلى جانب عددٍ من المطلوبين للقضاء العراقي، وفي مقدمهم وزير المالية السابق رافع العيساوي ومحافظ نينوى السابق أثيل النجيفي. في مقابل ذلك، واجه المؤتمر تنديداً شديداً من بعض القوى السياسية الأخرى، في حين تعمّدت الأحزاب الكردية لزوم الصمت.
ويقارن المشاركون في «مؤتمر أنقرة» ــ وسابقه ــ مؤتمراتهم بتلك المؤتمرات المنعقدة إبّان حكم النظام السابق برئاسة صدام حسين، والتي كانت تُعقد في لندن وفيينا وطهران وبيروت، لكن مثل هذه المقارنة تبدو مختلفة جوهرياً لاعتباراتٍ عديدة، منها:
أولاً: إن مؤتمرات المعارضة العراقية كانت بمشاركة جميع القوى والأحزاب السياسية من كل المكوّنات العراقية (كردية، شيعية، سنية)، ومن مختلف الاتجاهات السياسية والفكرية.
ثانياً: إن «مؤتمر أنقرة»، الذي وجّه رسالة طائفية بامتياز، شارك فيه من هم في هرم السلطة العراقية، مثل نائب رئيس الجمهورية أسامة النجيفي، إلى جانب المناهضين للعملية السياسية كـ«هيئة علماء المسلمين»، والتي لم يخفِ أمينها العام السابق حارث الضاري، تأييده لتنظيم «القاعدة» و«حزب البعث».
ثالثاً: إن مناقشة الخريطة السياسية في العراق لمرحلة «ما بعد داعش»، ليست حكراً على مكوّن دون آخر، إذ هو أمر تُعنى به كل المكوّنات العراقية. وهنا نطرح تساؤلاً، هو كيف تسوّغ تلك القوى تدخل القوى الأجنبية في مناقشة قضية داخلية مصيرية؟ وترفض ــ مع سابق الإصرار ــ أن يكون لشركائهم في الوطن رأيٌ في قضية قدموا من أجلها تضحياتٍ هائلة في عمليات استعادة محافظات عدّة كالأنبار وصلاح الدين.
وتزامن احتدام المعارك في الموصل مع عقد مؤتمرات خاصّة بتلك القوى، وبرعاية دولية وإقليمية تعزّز المعلومات والمعطيات التي تتحدث عن مراهنة تلك القوى وبمساندة دول «5+1» (الولايات المتحدة، السعودية، تركيا، قطر، الإمارات والأردن) لصناعة معادلات سياسية جديدة لإدارة نظام الحكم تختلف عن تلك المعادلة التي برزت بعد احتلال العراق عام 2003. وبعبارةٍ أدق، فإن نظام الحكم لمرحلة «ما بعد داعش» سيكون مختلفاً عن النظام السياسي «لما بعد صدام حسين».

قد توافق القمة العربية المقبلة على مخرجات «مؤتمر أنقرة»

وما يزيد في التداعيات الخطيرة للترابط بين معارك الموصل وهذه المؤتمرات، أنها متزامنة مع الحملة الإعلامية والسياسية الشرسة التي يشنها المشاركون في «مؤتمر أنقرة» على «الحشد الشعبي»، باعتباره ميليشيات مسلحة يتلقى الأوامر والتوجيهات من إيران، والتي كما يقولون أصبحت منذ عام 2003 تفرض هيمنةً كاملة على العراق، إلى جانب أنّ «السُنّة هم ضحايا داعش، والحشد، وإيران».
ومن بين أخطر ما قالته العرب بعد سقوط النظام السابق إلى جانب مقولتي الهلال الشيعي وتهميش العرب السُنّة هو أن العراق أصبح تحت الحكم الإيراني المباشر، وهي المقولة التي ردّدها أكثر من مرّة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في أثناء حملته الانتخابية، وأعاد التأكيد عليها الأسبوع الماضي، واعتبرتها بعض القوى السياسية بمثابة رسالة في غاية الأهمية، تشير إلى جديّة الإدارة الأميركية في تغيير المعادلة السياسية الحالية في العراق، وبما يتناسب مع النتائج والمتغيرات التي ستحصل بعد هزيمة تنظيم «داعش»، تماماً كما حدث بعد حرب احتلال العراق.
ومن أجل إعطاء «مؤتمر أنقرة» بُعداً جديّاً وقوة دفعٍ إضافية، فإن من المتوقع، وفق مصادر مطّلعة، أن تبادر القمّة العربية المقبلة ــ التي ستنعقد في العاصمة الأردنية، عمّان ــ إلى التعاطي مع الهيئة القيادية والتنفيذية التي أفرزتها اجتماعات المؤتمر. ما يعني أن القمّة العربية ستوافق على مخرجات المؤتمر، باعتبارها قرارات ملزمة للحكومة العراقية في مرحلة «ما بعد داعش».
وتتوّهم غالبية تلك القوى ــ سواء المشاركة في العملية السياسية أو المناهضة لها، والتي تعتمد منذ عام 2003 خيار الاستقواء بالخارج ــ بأن «دول 5+1 ستتدخل هذه المرّة لإنقاذ المكوّن السُنّي بعد تحرير الموصل في ظل الحرب الطائفية واحتدام الصراع مع إيران»: إذا كانت الولايات المتحدة، كما ترى هذه القوى، قد أنقذت الشيعة والكرد من سطوة النظام السابق، فإن واشنطن ستتدخل، بمساندة عربية وإقليمية، لإنقاذ السُنّة وتخليصهم من سطوة «الحشد» وإيران.
هكذا ترى بعض القوى السياسية أن العراق سيدخل في مرحلة جديدة، وأن تحرير الموصل سيكون المحطة الأولى في عملية التغيير، مع أنها تدرك جيّداً أن العراق بعد الموصل سيدخل في «إعادة احتلال» جديدة، وأنه سيشهد مزيداً من الصراع لا يجلب إلى البلاد سوى المزيد من الخراب والدمار.

*نائب عراقي سابق