لم يكن مفاجئاً اهتمام المواقع الإخبارية الإسرائيلية بـ«رسالة الرؤساء» الخمسة إلى القمة العربية، واعتبارها مؤشراً على بقاء الانقسام الداخلي حول سلاح المقاومة ودورها في الدفاع عن لبنان. يأتي الاهتمام الإسرائيلي بهذه الرسالة، وما سبقها من مواقف وتطورات، امتداداً للاهتمام المتواصل بمجريات الأحداث السياسية الداخلية في لبنان، باعتبارها جزءاً من البيئة الإقليمية التي قد تنطوي على تهديدات وفرص بالنسبة إلى إسرائيل.
نتيجة ذلك، طالما كانت الساحة الداخلية اللبنانية موضع رصد ومتابعة من قبل الجهات الاستخبارية والسياسية والإعلامية، وكان لها موقعها في بلورة الخيارات الإسرائيلية العدوانية على لبنان والمقاومة.
قبل خروج الجيش السوري من لبنان، لم يكن للمواقف الداخلية، الصامتة أو الناطقة بمعارضتها للمقاومة، أي وزن في الحسابات الإسرائيلية. وكانت الرهانات في تل أبيب موجهة حصراً نحو توجهات القيادة السورية، على أمل أن تتمكن من استدراج سوريا للضغط على المقاومة، إغراء أو ضغطاً، لكنها في النهاية باءت بالفشل... وصولاً إلى تحرير عام 2000.
منذ عام 2005، وقبله بقليل، ازداد وزن الساحة الداخلية اللبنانية في الحسابات الإسرائيلية. وبلغ مستوى الرهان الإسرائيلي أن تحوّل الانقسام الداخلي اللبناني في الموقف من المقاومة إلى رهان جدي على اإمكانية نزع سلاح حزب الله، مدفوعاً بمجموعة عوامل مساعدة، بدءاً من الاحتلال الأميركي للعراق، وصولاً إلى مفاعيل انسحاب الجيش السوري من لبنان. وأبرز من عبّر عن رهانات إسرائيل في تلك المرحلة من تولى رئاسة الاستخبارات العسكرية، اللواء عاموس يادلين، الذي كشف في محاضرة له لمناسبة مرور عشر سنوات على حرب 2006 (مؤتمر معهد أبحاث الأمن القومي 2016)، بالقول إن «القرار 1559... ولّد شعوراً في إسرائيل بأن حزب الله سيتفكّك تلقائياً». وأضاف: «كان هناك شعور بأن عامل الزمن يعمل لمصلحتنا، فنحن نمتلك قوة أكبر بكثير (من حزب الله) وقدرة أكبر على التحمل والتسلح أكثر. وكلما مر الوقت، فإن تنظيماً صغيراً مثل حزب الله سيصل في النهاية إلى نقطة انكسار. لكن الوضع لم يكن كذلك».
فشل الرهان الإسرائيلي على امكانية أن تؤدي قوى سياسية لبنانية مهمة نزع سلاح حزب الله لوحدها، وصموده في وجه مفاعيل التطورات الإقليمية، دفع إسرائيل للمبادرة بنفسها، على أمل أن تتمكن من سحق حزب الله وقدراته، بما يُمكِّن القوى الداخلية من استكمال المخطط وتثميره على المستويين السياسي والأمني.
لم يقتصر الفشل على عدم نزع سلاح حزب الله، بل شمل أيضاً الرهان على إمكانية تقييد إرادة الحزب عن تفعيل قدراته في مواجهة إسرائيل عبر الساحة الداخلية اللبنانية.
على خلفية هذه القناعات، تبلورت في تل أبيب استراتيجية التلويح بالتدمير الواسع الذي يشمل البنية التحتية اللبنانية في أي حرب مقبلة، انطلاقاً من أن «الأخيار» في لبنان الذين راهنوا عليهم لم يتمكنوا من توفير البضاعة المطلوبة والمؤملة إسرائيلياً، كما يسوِّق لذلك رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق اللواء غيورا ايلاند.
هكذا تتضح بشكل جلي، أيضاً، حقيقة أن قدرة ردع حزب الله، التي ثبتت فعاليتها طوال أكثر من عقد، هي التي ساهمت في تقليص الرهانات الإسرائيلية على الداخل اللبناني. ولو تعدلت – فرضاً – موازين القوى لصالح إسرائيل لعاد إحياء الرهانات حتى على الأصوات الباهتة.
مع تبدل معادلات الصراع، لم تتخلَّ إسرائيل عن رهاناتها على الداخل اللبناني، ولكن تغيرت وظيفته بعد الفشل المتكرر في نزع سلاح حزب الله، ولاحقاً في تقييد إرادة تفعيل قدراته بما يؤدي إلى تعزيز قدرة الردع الإسرائيلية.
الدور الوحيد الذي تبقّى، حالياً، لبعض من في الساحة الداخلية اللبنانية، ويمكن للكيان الإسرائيلي العمل على توظيفه والرهان عليه، هو استمرار حملة تشويه صورة حزب الله، والحملات السياسية المتواصلة بهدف التشكيك في دوره الدفاعي والردعي في مواجهة التهديدين التكفيري والإسرائيلي. وهو ما يسمح لإسرائيل بالاستفادة منه في التحريض الذي تمارسه عبر وسائل إعلامها وقنواتها الدبلوماسية ومواقف قادتها السياسيين والعسكريين وصولاً إلى الأمم المتحدة... وليست «رسالة الرؤساء» التي اهتمت بتظهيرها وسائل الإعلام الإسرائيلية بشكل لافت إلا مفردة في مسار طويل.