هناك تقليدٌ سياسيّ قديم في هجاء الانتخابات والنظام الانتخابي، يمتدّ من سقراط مروراً بروسو و وصولاً الى النقّاد المعاصرين الذين يحذّرون من اختزال الديمقراطية في الانتخابات، وأنّ التصويت هو مجرّد عمليّة إجرائيّة من الممكن، إن حصلت في غياب ممارسة ديمقراطية فعلية وذات مضمون، أن تتحوّل الى «استفتاء» بين خياراتٍ محصورة، أو أن توصل فاشيين وشعبويين الى السلطة.
ولكنّ هناك سؤالاً أعمق، يتعدّى الانتخابات (وهي، في النهاية، مجرّد أداة)، عن مصداقية الوعد الأعمّ الذي قدّمته الديمقراطية الليبرالية الغربية، كنموذج، الى العالم، وعن صلاحية نظرتها الى نفسها بعد أكثر من ربع قرنٍ على انتصارها وهيمنتها كايديولوجيا كونيّة وحيدة، وتصفية من تبقّى من «أعداء الديمقراطية» عام 1991. هل من المنطقي، وفق النظرية الليبرالية، أن يكون دونالد ترامب هو ثمرة الانتصار الديمقراطي ونتاجه (وهذا في دولةٍ ثريّة، متقدّمة، ولا تواجه تهديدات وأعداء)؟ فلنتذكّر الوعود التي رافقت الانتصار الليبرالي في بداية التسعينيات، عن أن هيمنة الديمقراطية ستؤدّي الى تفتّح سياسي مستمرّ، وسياسات متسامحة وتقدميّة، وعقلانيّة تمثّل مصالح الأكثرية. كان بيل كلينتون يمثّل، أقلّه في الظّاهر وفي الشّكل، وجهاً مناسباً لهذه المرحلة المتفائلة: شابٌّ وسيم، لا ينتمي الى عائلة ثريّة (دليلٌ على أنّ النّظام مفتوحٌ للجميع بلا حدود)، وينتهج سياسة تقدمية اجتماعياً غيّرت الخطاب السائد في اميركا تجاه الهويات العرقية والثقافية والجنسية.
غير أنّ ترامب ليس استثناءً أو «حادثاً»، فقد خلف بيل كلينتون مباشرةً، في رئاسة «الديمقراطية المثال» في العالم، جورج بوش الابن، الذي لا أقلّ عنصريّة ورجعيّة عن ترامب، مع تميزه بميلٍ ديني أصولي. أمّا باراك اوباما، بحسب توصيف صديقٍ أميركي، فهو كان محاولة من النّخبة الأميركية لـ«بعث» أو إعادة إحياء النظام الامبراطوري «النّاجح» (restoration regime)، وقد أدّى فشله الى «ردّة» ترامب.
على ذلك، يزعم أحد المعلّقين بأنّ مشكلة النّخبة الأميركية التي تعارض ترامب بشدّة هي ليست ايديولوجية، أو تتعلّق حتّى بالسياسات والمصالح؛ الكثير من معارضي ترامب داخل أميركا يكرهونه فحسب بسبب أسلوبه وشخصيّته، وليس مضمونه. طريقته الفظّة في الكلام، التعابير التي يستخدمها مع النساء، وكونه يمثل صورةً «أقلّ رقياً» لمن يستحقّ، في نظرهم، أن يحكم البيت الأبيض. على المقلب الآخر، لم تكن هيلاري كلينتون تمثّل نقيضاً ايديولوجياً لترامب، بل نحن لا نعرف ما كانت تمثّل بالضّبط، فهي كانت على رأس حركةٍ تضمّ في وقتٍ واحد ــ على حدّ تعبير سلافوي جيجك ــ جماعة وول ستريت وجماعة «احتلّوا وول ستريت».

الانتخابات في زمن الأزمة

في اوروبا، هناك عمليّة مشابهة اليوم. يمكننا هنا أن نستعين ــ مجدّداً ــ بالباحث علي القادري الذي يوصّف النظام الانتخابي الغربي، بعد الحرب العالمية الثانية، على أنّه مصمّمٌ لمنع التغيير: طالما أنّه لا توجد أزمة فإنّ الناخبين سيصوّتون، بشكلٍ متكرّر وقابل للتنبؤ، لصالح أحد الحزبين الكبيرين؛ والدور الوحيد للتصويت والمناظرات والجدال الانتخابي هو في تصويب أولويات النخب ــ التي تتبادل الحكم في ما بينها ــ درجةً الى اليمين أو درجةً الى اليسار (يُطلق القادري على هذا النظام توصيف «فاشية اجتماعية»). المشكلة، في الكثير من الميادين الانتخابية اليوم، هي أنّ «الأزمة» قد حلّت، ولم يعد النّاخبون يمتثلون للخيارات التقليدية، وظهر المرشحون «الخوارج» و«المتطرفون» وأصبحوا مادّة الانتخابات. في فرنسا، كما في الولايات المتّحدة، خسرت المفاهيم القديمة لليمين واليسار مركزيتها حين أصبحت المواجهة، فعلياً، بين النظام القديم بكلّ ما فيه (على طريقة ائتلاف هيلاري كلينتون) وبين «المتطرّفين».
المسألة المركزية هنا هي في تشخيص معنى «الأزمة»، ولماذا تهجر القواعد أحزابها القديمة، ويصعد اليمين المتطرّف و«الشعبويّون»؟ تروج اليوم، عموماً، إجابتان على هذا السؤال. النّخب الغربية، في تحذيرها من «الشعبوية»، تكشف عن نظرتها الى المشكلة: «الوعي الزائف»، مرشّحون متطرّفون يستغلّون مخاوف الطبقة العاملة وفقرها، ويدغدغون مشاعرها الوطنية ورهاب الأجانب لديها، ويستخدمون النظام الانتخابي المفتوح والليبرالي لإيصال قياداتٍ معادية لليبرالية. في هذه الحالة، الحلّ يكون عبر مرشّحين مثل هيلاري كلينتون واوباما وماكرون (الذي لا نعرف، ايضاً، إن كان يميناً أم يساراً)، «يتصدّون» للخيار العنصري ويؤكّدون على مبادىء الجمهوريّة وعلى استمرار المسار القائم.
من جهةٍ أخرى، هناك تفسيرٌ مقابل يبحث في «الأساس المادّي» للنظام السياسي في الغرب، ويحاجج بأنّ الانفلات الحرّ لرأس المال في المرحلة النيوليبرالية، وانحسار دولة الرعاية والضمانات والإزدهار الاقتصادي، هو مسبّب «الأزمة» وجذرها، وأنّ تفكّك الطبقة العاملة وإفقارها هو ما يدفعها الى التصويت «المتطرّف». في هذه الحالة، لا يمكن أن يكون الحلّ بمزيدٍ من الليبرالية، أو في التأكيد مجدّداً على الأخوّة الانسانية، بل يجب أن نفهم أن هذا النّظام الليبرالي النّخبوي، تحديداً، هو ما أنتج الأزمة، وأنّ اليسار الغربي «التقدّمي» الذي يدعو الى الحريات والحقوق الثقافية ونبذ التفرقة من دون حدود ولكنّه لا يلمس الاقتصاد ومسألة التوزيع، هو جزءٌ من المشكلة. بتعبيرٍ آخر: في الوقت الذي كان فيه بيل كلينتون وباراك أوباما يشرّعان لكلّ أشكال الحقوق الجنسية والثقافية في المجتمع الأميركي، من تشريع الماريجوانا الى زواج المثليين، كانا يطبّقان بإصرارٍ ــ في الآن ذاته ــ السياسات الاقتصادية التي حطّمت الطبقة العاملة وحوّلت العمال الذين شكّلوا، منذ زمنٍ قريب، قاعدة الحزب الديمقراطي الى مؤيّدين لدونالد ترامب.

«هولاند من جديد»

في فرنسا، مثّل جان لوك ميلانشون استثناءً، بمعنى أنّه توجّه مباشرةً الى المسألة الاقتصادية وطالب بإعادة التوزيع. منذ الثمانينيات في فرنسا، لا أحد من الحزبين الحاكمين يجرؤ على المناداة بزيادة الضرائب أو تحسين ظروف العمّال عبر انفاق الدولة. حتّى الحزب «الاشتراكي» تخلّى عن الحلول الاشتراكية، وهو يكتفي بطرح «سياسات نموٍّ» بدلاً من التوزيع، واعداً العمّال بأن ظروفهم ستتحسّن حين يتحقّق النموّ ويكبر الاقتصاد. ميلانشون قال ببساطة إنّ فرنسا دولة ثريّة، والطبقة العاملة في انحدار، والحاجة هي الى فرض ضرائب على الأثرياء وتوزيعها «علينا». وحين تتحسن ظروف غالبيّة النّاس ويزداد تعليمهم وانفاقهم، سيحصل النموّ. بدلاً من أن نعمل أكثر، يجب أن نعمل أقلّ، وبدلاً من أن نتقاعد في سنّ العجز، يجب أن نرتاح في سنواتنا الأخيرة وأن نفسح المجال لمن هم أصغر ــ وعلى أصحاب المداخيل العالية والشركات الكبرى أن يموّلوا كلّ هذا.
اقترح ميلانشون زيادات ضريبية لتغطية التوسّع في إنفاق الدّولة، وصولاً الى فرض «حدّ أعلى للأجور»، تصبح نسبة الضريبة بعده 100 في المئة. من لا يعجبه ذلك من الأثرياء، قال ميلانشون، فإنّ في وسعه الرحيل وترك البلد، فنحن الأكثرية. من وجهة نظر الطّبقة العاملة الفرنسية، التي تعاني من بطالةٍ متزايدة، تفوق الـ25% بين الشباب، ودخلٍ يتقلّص، وظروف عملٍ تزداد سوءاً، من يرفض عرضاً كهذا؟ (لم تتمكن الحكومات الفرنسية، في العقود الماضية، من انتزاع الضمانات التي قدّمت الى العمّال أيّام «دولة الرعاية»، ولكنها سمحت بـ«تجاوزها»: أكثر الموظّفين الجدد يعملون بعقودٍ مؤقّتة، مثلاً، لا تحظى بالحماية التي كان العامل يمتلكها في الماضي، الحد الأقصى للعمل لا يزال 35 ساعة في الأسبوع، ولكنّ أكثر الشركات الخاصة لا تلتزم به، الخ…).
المفارقة هي أنّ النخبة السياسية في فرنسا (والنخب المالية في العالم) تنظر الى الموضوع الاجتماعي من الزاوية المعاكسة: المشكلة، كما تقول مجلّة «الايكونوميست» اليمينيّة، هي أنّ الدولة في فرنسا تنفق أكثر مما يجب، وضمانات العمّال كثيرة، وفرنسا تجنّبت ــ حتى الآن ــ خوض «الاصلاحات الهيكلية المؤلمة» التي مرّت بها دولٌ أخرى في الغرب، وهي صارت مستحقّة. أي أنّ العمّال أمامهم مزيد من «التضحيات». من هنا كان برنامج مرشّح اليمين، فرنسوا فيّون، يتلخّص في اقتطاع نسبةٍ كبيرة من انفاق الدّولة، وتسريح الكثير من الموظّفين، وزيادة ساعات العمل وتأخير سنّ التقاعد. أمّا ماكرون، فإنّ برنامجه الاقتصادي يمثّل نسخة مخفّفة عن برنامج فيّون (قبل أن تجري الدّورة الأولى من التصويت، استعرضت «ايكونوميست» اليمينيّة المرشّحين واستقرّت، كما فعل الكثير من اليساريين العرب، على دعم ماكرون). بهذا المعنى، المسألة الأساس ليست في «منع لوبان من الوصول»، وهذا شبه محسوم، بل هل أنّ دواء لوبان هو في الاستمرار على النهج النيوليبرالي القائم، أم أنّ ذلك لن يؤدّي الّا الى تعميق الأزمة، بصرف النظر عن نتيجة الانتخابات؟ (بالنظر الى مزاج الجمهور الفرنسي في السنوات الماضية ونظرته السلبية الى رئيسه، فإنّ استقرار الناخبين، مع ماكرون، على «هولاند جديد» هو أمرٌ لا يصدّق).

خاتمة

في مقالٍ له عن من عام 2014، يتكلّم الكاتب الأميركي مارك آيمس عن وضع النخبة الليبرالية في موسكو وسان بطرسبرغ (أقام آيمس لسنوات طويلة في روسيا، ونشر منها مجلّة اسمها «إيكزايل» مثّلت، بأسلوبها ومواضيعها، إحدى أكثر المحاولات الصحافية فرادة في التسعينيات). يقول آيمس إنّ مريدي الليبرالية في روسيا، الذين دعموا بوتين في ولايته الأولى ثمّ انقلبوا عليه في ولايته الثانية، تجمعهم علاقة كراهية متبادلة مع بقية الشعب الروسي. «الانتلجنسيا الليبرالية»، وحولها طبقة مدينية صغيرة تعيش على الطريقة الغربية، يتكتّلون في مدينة موسكو ويملكون صوتاً ونفوذاً أكبر بكثيرٍ من حجمهم، ولكنّهم محاطون ب11 منطقة زمنيّة مليئة بالرّوس «العاديين» الذين يكنّون لهٌ كرهاً عميقاً.
الصحافيون الليبراليون والفنانون والناشطون الروس الذين يواجهون بوتين، ويجري اضطهادهم في بلادهم ويتمّ الاحتفاء بهم في الغرب، لا يتعاطف معهم أحدٌ من شعبهم تقريباً. حتّى حين وضع بوتين فرقة «بوسي رايوت» في السجن، يقول آيمس، لم يدعمهم في الاستطلاعات أكثر من 6% من الجمهور الروسي (والفرقة تحولت الى رمزٍ كبيرٍ في الغرب، تشارك في المناسبات الكبرى ويتم اقتباس قصّة «نضالها» في الأفلام والمسلسلات). الكراهية متبادلة، يقول آيمس، والفوقية التي يحملها «الليبراليون الديمقراطيون» في المدن الكبرى تجاه أبناء شعبهم في المحافظات كافية لتحويل أيّ إنسانٍ الى بلشفي. تعجّ مذكّرات وكتب الصحفيّين «الديمقراطيين» الروس بمظاهر الفوقية و«القرف» من الشعب (خارج موسكو)، الذي لا يفهم الديمقراطية ولا يعرف أن يصير اوروبيّاً. يروي آيمس أنّ صحفيّة ديمقراطية «منشقّة» شهيرة مثل إيلينا تريغوبوفا تخلط بين احتقارها لبوتين واحتقارها لـ«السكان الأصليين» الذين يملأون المحافظات الريفية وينتخبونه. وأنّه لا مشكلة لديها في استعراض نظرتها الفوقية تجاههم، بدليل أنّهم لا يعرفون، مثلاً، الفارق بين عصير الليمون المصنّع والعصير الطبيعي، الذي تحبّه تريغوبوفا طازجاً.
في الظاهر، ثمة مفارقةٌ كبرى في أن تكون ليبراليا ديمقراطياً شعارك تمثيل الشعب وتحصيل حقوقه وانت «تخاف» من عموم الشعب وتكرهه وتحتقره. ولكنّ حالة الايديولوجيا الليبرالية اليوم في روسيا، والكثير من العالم الثالث، ليست الّا تكثيفاً لما يجري في الغرب: حين تفصل نفسك عن المصالح المادية للنّاس، وتترك الموضوع الاقتصادي بكامله لـ«السّوق» و«الخبراء»، فمن الطبيعي أن يتحوّل معسكرك الى «ثقافة نخبة»، معزولة في فئة اقتصادية ومهنية وجغرافية، وأكثرية الناس تنظر بنفورٍ إليك وإلى ثقافتك وشعاراتك (ولو من باب الحقد الطبقي). الليبرالي العربي الذي يدعم، بحماس، أي تدخّل غربي وغزوٍ في بلاده لا يفعل ذلك فحسب لتماهيه مع السياسة الغربية، بل لأنّه ينظر الى غالبية شعبه على طريقة الليبراليين الروس، ويفهم بأنّ الوسيلة الوحيدة لتحقيق مثله «الديمقراطية» (وإعطاء الشعب حقوقه) هي عبر قوّة خارجية تقهر المجتمع، وتنصره على الاستبداد والاسلاميين. في وسعنا، في هذه المرحلة التاريخية، أن نتمسّك بالوعد الليبرالي الذي خرج في التسعينيات، وأن نراهن على النّظام القائم وعلى شخصياتٍ مثل ماكرون وميركل وهيلاري؛ وفي وسعنا بالمقابل أن نتعلّم ممّا يجري من حولنا وأن نفهم حدود «ديمقراطية السوق»، ونبحث عن مفاهيم أكثر جذريّةٍ واشتراكيّةٍ وعمقاً للديمقراطية والسياسة.