سعد الحريري ليس فؤاد السنيورة. الأوّل «قلبه طيّب» أو يُريد أن يَظهر كذلك، وهو ينجح غالباً، أمّا الثاني فلا يُمكنه ذلك. ملامح وجهه أقوى مِن أيّ محاولة... وإن بكى. الحريري ليس «حريريّاً» بما يكفي. السنيورة «حريريّ» بقوّة. جيء بالحريري إلى السياسة صدفة، وراثة بحكم العُرف، ولربّما فضّل، لو تُرِك له الأمر، أن يَظلّ في «الخارج» مع شغفه بدرّاجة «هارلي». عندما قصد جنوب لبنان، الأسبوع الماضي، ورأى ما رأى، لم يستطع كبح جماح أصابعه ليُغرّد: «بحبّك يا لبنان يا وطني بحبّك. بشمالك بجنوبك بسهلك بحبّك». ليس صعباً، بعيداً عن المكابرة، أن تشعر أنّه في تلك اللحظة كان صادقاً.
زيارته للجنوب عُدّت ردّاً على جولة الإعلاميين في الجنوب، قبل يوم، التي نظّمها حزب الله. حتّى في تصريحه، مِن هناك، لم يكن لئيماً: «حزب الله لا يقنعني ببعض الأمور وأنا لا أقنعه ببعض الأمور». هل هذا دور الحريري المرسوم له سعوديّاً في هذه المرحلة؟ ربّما. لكن، بمطلق الأحوال، يَنجح الرجل في أن يَظهر عقلانيّاً. في طريق عودته مِن الجنوب، وبينما كان بعض شارع الحزب يَردّ على تصريحاته، غضباً، كان هو يتناول الغداء مع وزير الحزب محمد فنيش في مدينة صور.

يصعب تفسير
حالة سائق أجرة
معدم يشعر بنوع
مِن الشفقة على
ثري ابن ثري

يُمكن اعتبار سعد الحريري عيّنة ممتازة لتحليلها وفق قواعد علم النفس السياسي. يبدو في الآونة الأخيرة كمن أراد طبع شخصيته في قالب «إنساني». ينزل إلى الشارع لملاقاة الشبّان المتظاهرين، يُحدّثهم عبر المذياع، يُقذف بقناني الماء فلا يغضب، بل يتفهّم. ربّما يُحاول هنا لعب دور السياسي الشبابي، العفوي، كما في صورة بعض السياسيين الغربيين التي راجت أخيراً في العالم. تلك الصورة التي تقول إنّ صاحبها يَنزل مِن برجه العاجي إليكم، وها هو، مِن لحم ودم، مثلكم. يَنشر صورته راكباً درّاجة هوائيّة، داخل القصر الحكومي، بلباسه الرسمي وربطة العنق. كثيرون مِن السياسيين، مِن حلفائه وخصومه على حدّ سواء، يَسخرون مِنه في سرّهم. يضحكون. يفوت هؤلاء أنّ سعد في هذه الحركات إنّما يُراكم عطفاً شعبيّاً، يُزرع في اللاوعي، وإن لَم يَشعر أصحابه بذلك. طرق التأثير تتغيّر مع تغيّر العالم. المزاج البشري نفسه يتغيّر مِن حولنا. سعد الحريري ليس خبيثاً. هذا ما يقال في الشارع.
أيّ سياسي، في لبنان، يتلعثم أثناء تلاوة البيان الوزاري، حدّ الجرائم اللغويّة، ثمّ يضحك للضاحكين مِنه! عندما تأبى إحدى الكلمات الخروج صحيحة مِن فمه، فيقطع الأمل بعد محاولات، قائلاً للنوّاب الحاضرين: «خلص المُهم فهمتوها». كان هذا سابقاً. لقد تحسّن الحريري كثيراً في النطق أخيراً. لقد طوّر نفسه. قبل نحو أسبوعين، قال: «أنا محتاج إلى مساعدة الجميع». كان يتحدّث في ذكرى الحرب الأهليّة. سعد الحريري أفضل الموجود. ربّما على الجميع، مِن خصومه تحديداً، التفكير في كيفية عدم خسارته، بل وحمايته... مِمَن هم قربه تحديداً. في الآونة الأخيرة بدا كأنّه ليس حريريّاً، أو ليس «سوليديريّاً» بمعنى أدقّ، عندما غرّد قائلاً: «مَن يستذكر كيف كان لواجهة بيروت البحريّة أيام الأحد ساعات مخصّصة لركوب الدراجة الهوائيّة خالية مِن السيارات؟ هل تؤّيدون إعادة إحيائها؟ أنا أؤيد». هذه محاولة فاشلة. جرّب بطريقة أخرى يا دولة الرئيس. صورة انتظارك دورك في أحد المطاعم، في انتظار «السندويشة» المطلوبة، كانت مقبولة. مُستهلكة إنّما لا بأس. دعك مِن تذكير الناس كيف كانت الحياة في بيروت وكيف أصبحت، هذه مساحة قد تفحّم صيت العائلة بها، وإلى أجيال لن يُفكّ ربط سيرتكم بما آلت إليه بيروت. لا يتوقّع مِنه الخروج مِن جِلدته، لكنّه يُعاني، وأحياناً مِن رعاته التقليديين. لا مكان للخطاب الإنسانوي في السياسة التقليديّة، لكن إن كان لا بدّ فالحريري، بذاك المعنى، حالة «مختلفة». هذه الحالة التي تجعل فقيراً، سائق أجرة معدم، يشعر بنوع مِن الشفقة على ثري ابن ثري. شعور يصعب تفسيره. إنّها مفارقة رهيبة.
قبل أكثر مِن عقد مِن الزمن، ومع تخندق الطوائف في الخلافات السياسيّة، ظُلِم سعد بأن وضعوه (الذين هم خلفه) قبالة السيّد حسن نصر الله. لقد جُلِد الشاب نفسيّاً بهذه المقارنة. لا شكّ أنّ آثار تلك المرحلة لا تزال عالقة في نفسه. كان الشاب آنذاك يُجيد تحضير «الكبسة» (طبقه المفضّل) كما قال مرّة لصحيفة «واشنطن بوست». لم يَكن يتوقّع أنّ الحياة السياسيّة ستكبسه كما لم يُكبَس مِن قبل. سعد الحريري «حنون... بس الزمن قاسي». سعد الحريري ليس فؤاد السنيورة.