ما الذي يمنح كتاب «تجار البشر: كيف جعل الجهاديون وتنظيم الدولة من الخطف وتجارة اللجوء عملاً يعود بأرباح بمليارات الدولارات» للوريتا نابليوني أهمية إضافية؟ إلى جانب ما يحويه من معلومات تفصيلية لم يسبق لي الاطلاع عليها من قبل، فإنّ مادة اللجوء والهجرة اللاشرعية أضحت جزءاً لا يتجزأ من المشهد العالمي على نحو عام، وفي بلادنا على نحو خاص. كيف يمكن تجاهل حقيقة أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب فاز في الانتخابات بسبب مواقفه العنصرية تجاه الآخرين ممن ليسوا من ذوي البشرة البيضاء، وأنه هو ومؤسساته لا يزالون منغمسين في حملة ترهيب من الآخر، تتجلى أيضاً في بناء سور حديدي على الحدود بين بلاده والمكسيك... لا نفهم لمَ لمْ يحاول الإفادة من خبرات رفاقه الصهاينة في العنصرية والاضطهاد!
أهمية المؤلف الأخرى أنها المرة الأولى التي نقرأ فيها مقاربة لمسألة الهجرة اللاشرعية وعصابات التهريب، ضمن إطار فكري أو نظري محدّد. الكاتبة والصحافية الإيطالية لوريتا نابليوني لم تكتف بسرد معلومات، والحقائق/ الحقائق البديلة [كذا!]، عن تجارة تهريب البشر من «الجنوب» إلى «الشمال»، وإنما وضعت ذلك ضمن الأطر التاريخية والاقتصادية والجغرافية. تهريب البشر ــ أي المتاجرة بهم ــ صارت صناعة تدرّ المليارات، وانخرطت فيها جهات عدة، من المسؤولين الفاسدين في مختلف الدول، من الجنوب والشمال، إلى العصابات الإجرامية في الجنوب وفي شرقي أوروبا، مروراً بالتنظيمات المسماة جهادية التي أخذت بمنهجية أطلقت الكاتبة عليها «الجهاد الإجرامي»، أي ما يسمى الحركات الجهادية التي تحولت إلى الإجرام والإرهاب لتمويل نفسها.
تتطرق الكاتبة إلى مختلف جوانب المسألة ضمن تعريف عام للإرهاب الذي يقول إنه جريمة بهدف الحرب. هذا التعريف ليس مهماً لنا، لكنه ضروري لمعرفة مختلف التوصيفات التي تستخدمها الكاتبة في مؤلفها المهم.
تبدأ لوريتا نابليوني مؤلفها من النقطة المناسبة، أي من البداية، وأسباب انتعاش الإرهاب والجرائم الأخرى المرتبطة به من خطف وتهريب واحتجاز رهائن، وما إلى ذلك، فتقول إن أحداث الحادي عشر من أيلول شكلت منعطفاً مفصلياً في الخصوص. فمن جهة، تحولت كثير من الدول الإسلامية إلى مرتع للفوضى. ومن جهة أخرى، جاء رد فعل الإدارة الأميركية في تمرير «قانون الوطني» Patriot Act الذي حدّ من حريات المواطن الأميركي ومنح السلطات حريّة التجسّس عليه من دون حسيب ولا رقيب وفرض رقابة صارمة على التحويلات المالية. هذا القانون دفع بكارتيلات تهريب المخدرات في أميركا اللاتينية، وفي كولومبيا تحديداً، إلى عقد شراكة مع المافيا الإيطالية بهدف غسيل الأموال التي تجنيها من تجارة المخدرات وكافة الجرائم الأخرى، وكذلك إلى البحث عن طرق تهريب جديدة لإيصالها إلى أوروبا. تقول الكاتبة إن فنزويلا تحولت إلى مركز لتهريب المخدرات. أما «ساحل الذهب» في إفريقيا، فتركز في دولة غينيا بيساو ومنها إلى دول الساحل في مالي ومنها إلى سواحل جنوب المتوسط في ليبيا والجزائر والمغرب، ومنها إلى أوروبا عبر المتوسط.
في عام 2003، عمد تنظيم الجماعة الإسلامية المسلحة الذي كان منخرطاً في تهريب الدخان إلى اختطاف الأجانب. هكذا، تمكّن من احتجاز 32 أجنبياً من جنوبي الجزائر وشمالي مالي. الدول الأوروبية ذات العلاقة، دفعت للتنظيم الجزائري فدية مكنته من تأسيس تنظيم «القاعدة» في المغرب الإسلامي.
عمليات تهريب المخدرات الآتية من أميركا اللاتينية عبر غربي إفريقيا ودول الساحل، أسهمت إلى حدّ كبير في تحويل بعضها إلى دول فاشلة، ما أدى إلى نمو عمليات الاختطاف والتجارة بالبشر، أي الهجرة اللاشرعية إلى أوروبا. كما أدى ذلك إلى نمو عدد الشركات الأمنية المتخصصة في اختطاف الرهائن!
الانخراط في العولمة، قاد ضمن أمور أخرى إلى انهيارات اقتصادية واضطرابات أمنية في بعض دول الجنوب، وبالتالي ارتفاع عدد طالبي الهجرة واللجوء. وهذا عنى بدوره ارتفاعاً في عائداتها.
المشكلة التي واجهت المهربين وتجار المخدرات، لم تكن الحصول على الأرباح وإنما في كيفية استثمار الأموال، آخذين في الاعتبار الرقابة المالية الصارمة من قبل واشنطن. هذه المشكلة حلت مع اعتماد اليورو كعملة عالمية، ما سهّل على المجرمين غسيل أرباحهم القذرة، دوماً بحسب الكاتبة.

تفاصيل مثيرة عن الهجرة اللاشرعية وعصابات التهريب

كميات المخدرات المهربة إلى أوروبا عبر غربي إفريقيا، وصلت في عام 2009 إلى نحو ستين طناً من الكوكايين، علماً بأن المخدر كان يصل إلى الأخيرة من كولومبيا وبيرو وبوليفيا وفنزويلا والبرازيل.
تقول الكاتبة إنّ تأسيس تنظيم «القاعدة» في المغرب الإسلامي تمّ بأموال جُنيت من تهريب السجائر وعمليات اختطاف الأجانب والحصول على الفدية. اختطاف الاثنين وثلاثين أجنبياً في عام 2003 تم على يد الجماعة السلفية للدعوة والجهاد بقيادة مختار بلمختار الذي كان يُعرف باسم مستر مالبورو (Mr. Malboro). علماً أنّ هذه الجماعة انشقت عن «الجماعة الإسلامية المسلحة». هذه الجماعات القاعدية، لجأت إلى التهريب والخطف بسبب عدم وجود علاقات لها بدول الخليج، مصدر التمويل الرئيس للقاعدة. تنظيم «القاعدة» في المغرب الإسلامي تمكّن ــ عبر التهريب والخطف ــ من جمع مبلغ 165 مليون دولار أميركي بين عامي 2003 و2011، دوماً بحسب الكاتبة نقلاً عن صحيفة «نيويورك تايمز».
جرائم الاختطاف أضحت عملية مربحة، مما شجع تنظيم «القاعدة» في أفغانستان على سلوك طريق الجريمة نفسها، ولاحقاً من التنظيمات المسلحة والإرهابية والإجرامية في سوريا والعراق ومنها «تنظيم الدولة».
تعرض الكاتبة بالتفاصيل بعض عمليات خطف/احتجاز الأجانب كرهائن، ومنها خطف السائحة ماريا ساندرا مرياني، وعمال الإغاثة الإسبان والإيطاليين رُسللا أورّو وآينوا فرنندِز وإنريك غُنيلونز، لتُبّين أن الحكومات تقيم مفاضلة بينهم. على سبيل المثال، دفعت الحكومات الإيطالية والإسبانية مبلغ 15 مليون دولار لإطلاق سراح الرهائن الثلاث بعد قضائهم ثمانية أشهر بين أيدي مختطفيهم، بينما كان على السائحة انتظار مرور أربعة عشر شهراً حتى تنعم بالحرية. أي أن الحكومتين قيّمتا حيوات عمال الإغاثة أعلى من حياة السائحة!
هذا التصرف التمييزي شجع الخاطفين على تعلم كيفية التعامل مع الحكومات الغربية وكيفية تقويم سعر حياة كل مختطَف.
عملية الخطف الأخرى التي تنوه إليها الكاتبة هي ما يعرف بـ «الأختين سيمونا» أي سيمونا تُرِّتّا وسيمونا فاري اللتان اختُطفتا مع إيطاليين آخرين ومواطنين عراقيين هما رائد علي عبد العزيز ومهناز بسام، في بغداد يوم السابع من أيلول (سبتمبر) 2007. أعلنت جماعة تدعى «أنصار الظواهري» مسؤوليتها عنها. بعد التقصّي، تبيّن أنّ الخاطفين ينتمون إلى مجموعة إجرامية لا غير، وكل ما كانوا يريدون تحصيله هو المال. استعادت الكاتبة عملية الخطف هذه لأن أقوال الحكومة الإيطالية ووسائل الإعلام/ التضليل رسمت صورة مختلفة، إذ تم ادعاء أن الخاطفين ينتمون إلى جماعة سلفية إرهابية. قوة الدعاية المضلّلة أجبرت «جماعة التوحيد والجهاد» بقيادة أبو مصعب الزرقاوي على نفي أي علاقة لها بجريمة الخطف. أي أن أعمال الخطف كانت تمارسها مجموعات عدة كثير منها إجرامي بحت ولا علاقة له بالسياسة.
أما حادثة خطف سرايا المجاهدين لليابانيين الثلاثة عام 2004، فقد كان لها تأثير مختلف. دفع الثلاثة ثمن شجاعتهم، إذ كانوا يقومون بجمع معلومات وإثباتات على جرائم الحرب الأميركية في العراق. فقد شهّرت بهم حكومة طوكيو وعدّت أن خطفهم جلب العار لليابان. ومع أن الحكومة اليابانية دفعت الفدية مقابل إطلاق سراحهم، إلا أنها طالبت كلاً منهم بدفع مبلغ سبعة آلاف دولار ثمن تذكرة العودة إلى بلادهم!
عمليات الجهاد الإجرامي ــ وفق وصف الكاتبة ـــ كانت من الظواهر الجديدة في مجال الإرهاب، أيضاً وفق تعبير الكاتبة. وقد ذكرت أن ارتكاب التنظيمات السياسية الجرائم يمكن أن يحولها إلى تنظيمات إجرامية، وهو تماماً ما حصل مع منظمة ياسر عرفات، أي «منظمة التحرير الفلسطينية» التي اخترقها الفساد والطمع وصولاً إلى نخاع العظم.
برأي الكاتبة، تنظيم «القاعدة» في المغرب الإسلامي كان يحوي منذ البداية مكونات التنظيم الإجرامي بسبب عدم توافر مصدر تمويل، فلجأ إلى تهريب البضائع والمخدرات واحتجاز رهائن كمصدر تمويل له. الجهاد ــ بنظر الكاتبة ــ تحوّل إلى شاهد زور لأعضاء التنظيم كي يحسّنوا من مداخيلهم. فقد بدأوا بتهريب الدخان ثم المخدرات، فاحتجاز الرهائن الأجانب، وأخيراً تجارة البشر وتهريبهم إلى أوروبا. عملية احتجاز الرهائن كانت تجارة مربحة للإرهابيين والجهاديين الإجراميين، إذ ارتفع سعر الرهينة من مليون دولار في عام 2003 إلى 4 ملايين دولار في عام 2012.
منظمة البوليس الدولي، «إنتربول»، قدرت أن دخل تهريب البشر من ساحل العاج في عام 2004 يقارب المئة مليون دولار سنوياً. أما المداخيل الحالية فتقارب المليار دولار سنوياً، وهو مردود أعلى بكثير من الناتج من احتجاز الرهائن.
كما تولي الكاتبة أهمية خاصة إلى الأساليب الوحشية التي تعامل التنظيمات الجهادية - الإجرامية المهاجرين، حيث يتم احتجاز كثير منهم وخطفهم وبيعهم عبيداً. كما نوهت إلى أن الفتيات القاصرات المهاجرات من إريتريا والصومال يُختطفن، ويُبعن إماء داخل مشيخة آل سعود.
تجارة البشر الرابحة فتحت «آفاق» الجهاد الإجرامي والجريمة في مناطق أخرى من الساحل. إذ انتشرت إلى الصومال وكينيا ومن ثم إلى اليمن حيث كان الآلاف من المهاجرين الإفريقيين يعيشون في الشوارع ويعتاشون من النفايات الملقاة في حاويات القمامة أو في جوانب الطرقات. كما أولت الكاتبة جرائم القرصنة انتباهها، ونوهت إلى أن الصيد التجاري للدول المصنعة في مياه البلاد الإقليمية قضى على الثروة السمكية وحوّل كثيراً من الصيادين المحليين إلى قراصنة. وأشارت إلى علاقاتهم بالصوماليين في المهجر، وخصوصاً في دبي التي أضحت محطة لتمويل القراصنة ولغسيل أموالهم.
تنتقل الكاتبة للحديث عن مختلف عمليات الخطف التي تمت في شمالي سوريا قرب الحدود مع تركيا. وتتحدث عن دور مختلف التنظيمات المسلحة فيها، مشيرة إلى دور الدعم المادي من مشيخات الخليج الفارسي في ولادتها واستمرارها. كما تشير إلى أن لجوء بعض التنظيمات إلى الخطف واحتجاز البشر رهائن، يعود إلى توقف دعم مشيخات الخليج لها. إذ تحوّل كله إلى تنظيم الدولة المشكل أصلاً من مخابرات صدام حسين، دوماً وفق الكاتبة. كما تذكر بالتفصيل رواية الطيار الحربي الإسباني لويس مونار الذي انضم إلى الجماعات المسلحة في سوريا، وبدأ بتدريبهم الذي رأى المشايخ من قطر والسعودية يوزعون كميات كبيرة من الأموال على المسلحين المعادين لدمشق. كما تذكر رواياته عن أنّ كثيراً من العمليات وخاصة من لواء الفاروق، كانت استعراضية تجرى لمصلحة التلفزيون القطري، وأن قادة لواء الفاروق قاموا بفرز قسم من قواتهم تحت اسم «لواء الفاروق الإسلامي» كي يحصلوا على دعم قطر والوهابيين.
وتشير الكاتبة أيضاً إلى دور الوسطاء في المفاوضات بين الخاطفين من جهة وأهلهم أو دولهم، وتذكر تحديداً السيد سمير العيطة المقيم في باريس الذي أجرت الكاتبة لقاءً معه عبر السكايب في تموز (يوليو) 2015، والذي طلب منه خاطفون التفاوض مع دولهم أو أقربائهم.
مؤلف مثير ومنير يحوي الكثير من التفاصيل المتعلقة بأعمال الخطف والرهائن والمتاجرة بالبشر المأساوية.