يشكو رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل من كونه الوحيد الذي يطرح مشاريع قوانين للانتخابات، وأن كل ما يطرحه يرفضه الآخرون، ليخلص الى أنه لا يجوز الاستمرار في هذه الطريقة من العمل، قبل أن يجدد القول إن التيار الوطني منفتح على كل الأفكار، وإنه مستعد الآن للسير في إجراءات إعلان العلمنة الشاملة في البلاد.
في الشق الاول، يجب توضيح أن هناك مقترحاً سبق أن وافقت عليه حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، وكان التيار الوطني شريكاً فيها، يقضي باعتماد النسبية الشاملة في 13 دائرة انتخابية. وفي وقت لاحق، وافقت القوى المسيحية في بكركي على المشروع المقرّ حكومياً مع زيادة عدد الدوائر، ما جعل تيار المستقبل الوحيد خارج دائرة الموافقين على هذا الاقتراح.

لماذا تراجع التيار والقوات عن تأييد
مشروع بكركي؟ هل لأن التوازنات تغيّرت،
أم كانت الموافقة مناورة؟


بعد انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، دخل تطور كبير، تمثل في تراجع النفوذ السياسي والشعبي لتيار المستقبل، وتعرّضه لانتكاسات عدة، بينها ما يتعلق بوزنه الإقليمي أيضاً. وذهب الرئيس سعد الحريري الرافض بالمطلق لمبدأ النسبية الى القبول باعتمادها مع توزيع جديد للدوائر. أما وليد جنبلاط، فهو يعرف منذ زمن بعيد أن الأمر لا يتعلق بالأحجام الانتخابية، بل بالتوازنات والتحالفات السياسية في البلاد. وهو يبحث عملياً عن تحالفات تضمن تمثيله كزعيم الغالبية الدرزية، وكفريق له نفوذه عند بعض المسيحيين والسنّة.
يعني، ببساطة، ان مشروع القانون المقرّ في حكومة ميقاتي، والموافق عليه في حينه من جانب القوى المسيحية في لقاء بكركي، له أساسه السياسي والقانوني القوي، وبعد التعديل في موقفي الحريري وجنبلاط، فليس هناك من منطق يقول بالتراجع عن هذا المشروع من قبل أيّ من الاطراف الاساسية. وعملياً، الذي حصل هو أن انتخاب العماد عون رئيساً أدخل تعديلاً جوهرياً على إدارة السلطة في البلاد، وفتح الباب أمام مزيد من التغييرات الإيجابية. لكن السؤال: لماذا تراجع التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية عن تأييد هذا المشروع؟
يقال الكثير حول أفضل طريقة لتمثيل المسيحيين في البلاد. لكن الواضح أن التوافق الذي حصل في بكركي حينها، كان تعبيراً عن توازن القوى القائم. وجاءت موافقة التيار والقوات على المشروع، ربطاً بموازين القوى، وبالخلاف الحاد الذي كان قائماً بينهما. أما التراجع عن الموقف، فهو أيضاً، بسبب تغييرات التوازنات القائمة، وتراجع حدة الخلاف بينهما. فماذا يعني هذا للآخرين؟ يعني أن ما هو مطروح اليوم من مشاريع قوانين إنما يعبّر عن خطوة متقدمة في برامج التيار والقوات، لكن في سياق الصراع على الحصة المسيحية، وأن المشاركة في اجتماعات تضم قوى مثل تيار المردة وحزب الكتائب لم تكن عن اقتناع بأن لهاتين القوتين حضورهما وتمثيلهما عند المسيحيين أصلاً. وهذا يفسر حالة الذعر المنطقية عند هاتين القوتين، وعند مستقلي 14 آذار عند المسيحيين، والتفسير واضح لمعنى هذا الذعر: هناك طرف لا يريدنا ضمن اللعبة. هذا الطرف قبِل بنا على مضض، وطريقة تشكيل الحكومة الحالية تدل على عدم اكتراث التيار لتمثيلنا. والآن، يسعى هذا الطرف الى إبعادنا نهائياً عن المشهد.
موقف «القوات» ليس مهماً، خصوصاً بعد استعادة سمير جعجع خطابات التعبئة والتحريض التي كانت قائمة خلال الحرب الاهلية، التي لم تنجح قيادة جعجع في تحقيق أيّ مكسب فيها. لكن المهم موقف التيار الوطني الحر، خصوصاً عندما يقول باسيل إن هذه المقترحات تقوم بسبب عدم رغبة الاطراف الاخرى في السير بمشروع الدولة العلمانية.
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا يخوض التيار الوطني الحر منذ الآن معركة الدولة المدنية، فيعمد الى وضع استراتيجية تقوم على توسيع دائرة القوى والمجموعات والتجمعات الشعبية التي تهتم بإطلاق الدولة العلمانية، والسير خلف شعارات ستحظى بصدقية إن رفعها العماد عون وأكد ضرورة تحقيقها؟ وعندها، في حال تعرض المشروع لمواجهة من قبل قوى تريد تكريس الطائفية، يكون الشارع مسرحاً لمواجهة بين فئة تريد دولة المواطنة، وستكون حكماً الأكثر تمثيلاً على كافة الصعد، ولها شكلها الوطني غير الطائفي، وفئة تريد تكريس الطائفية، وهي فئة تراجع حضورها بقوة خلال السنوات الاخيرة، وأظهرت التحركات المدنية أنها قوى خائفة وتخشى على مصالحها. وعندها، فإن البلاد وإن شهدت توترات سياسية أو حتى شعبية، فلن يقدر أحد على اتهام أحد بخلفيات ومصالح ضيقة. وسوف تظهر الايام حقيقة أن حجم التأييد لتغيير جوهري في بنية النظام أكثر بكثير ممّا يعتقد كثيرون...
أيها التياريون، لماذا لا نخوض منذ الآن معركة الدولة العلمانية؟