«أنا اسأل: وما هي الميليشيا يا سيّدي؟ انّها الشعب بأكمله، ناقصاً بعض المسؤولين وأصحاب المناصب»جورج مايسون

كما يكتب ستيفن غوانز، فإنّ السّلاح الأقوى لأميركا في عالم ما بعد الحرب الباردة ليس القوّة العسكرية بمعناها المباشر الفجّ. الجيش الأميركي الهائل، وإن كان تهديده ماثلاً في أذهان الجميع، الّا أنّه لا يستخدم ضدّ دولٍ وجيوش الّا نادراً، وفي الغالب في وجه قوىً هزيلة.

الضّغط الحقيقي الذي تمارسه اميركا على المنافسين والخصوم، مثل روسيا وكوريا وايران، هو في قدرتها على شنّ حربٍ «غير رسميّةٍ» عليهم، عبر العقوبات والحصار والتخريب الاقتصادي، وصولاً الى تجنيد ميليشيات وقوىً تشنّ حرباً داخلية بالوكالة، أو تهزّ الاستقرار أو تفجّر ساحات المدن. المسألة هي أنّ النّظام المستهدف، في هذه الحالة، يعيش حالة حربٍ ومواجهة ودفاع، تمتدّ أحياناً لسنوات، من غير أن يكون، «رسمياً»، في حالة حربٍ مع اميركا أو أن تتحمل واشنطن كلفة المواجهة المباشرة (سوريا هي حالة متطرّفة من هذا النّمط).
في اوكرانيا في ربيع 2014، وجد فلاديمير بوتين نفسه في هذا الموقف تماماً: يراقب من خلف حدوده فيما اوكرانيا «تضيع» منه؛ الغرب نظّم انقلاباً والانقلاب يحكم البلد. في وسع موسكو أن تتفرّج فيما حلفاء الغرب وأعداؤها ينقضّون على السلطة، وكتائب من «المتطوعين» الفاشيين تأتي من الغرب لتسيطر عسكرياً على الشرق وتقمع مؤيديّ موسكو، ليزيد عزل روسيا وتهميشها وحصارها عبر حكوماتٍ معادية تحيط بها. البديل هنا هو إعلان الحرب والتدخّل العسكري على طريقة جورجيا: جيشٌ روسيّ ضخم، تتقدمه طوابير مدرّعة كبيرة، يخترق الحدود ويتورّط في حربٍ تقليدية، هي في حالة اوكرانيا خطيرة وغير مأمونة العواقب. يعتبر العديد من المراقبين الغربيين أن سلوك موسكو خلال حرب الدونباس، من دعم وتسليح وتنظيم الأقلية الروسية، وصولاً الى تدخّل الوحدات الروسية مباشرة في بعض الحالات، كان شكلاً من «الحرب الهجينة» يمثّل ردّاً على سياسة «الحرب غبر المباشرة» التي أشهرها الغرب في وجهها. للمرّة الأولى، لم تحارب موسكو وفق تقليد «الجيش الأحمر»، حيث الأعداد كبيرة والهجوم كاسحٌ والحركة ثقيلة، بل عبر وحداتٍ صغيرة سرية، وحرب أنصارٍ على الأرض، وتكتيكات الحرب اللامتكافئة.
سنعرض في هذا المقال بعض أهمّ الدروس العسكرية التي برزت خلال صيف 2014 في اوكرانيا، أوّل صدامٍ عسكري تشهده هذه المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي تضافرت فيها الظروف المحلية مع الاصلاحات العسكرية في الجيش الروسي لتنتج اسلوباً روسياً جديداً في القتال. هناك خلافٌ تأريخيّ شديد، أسبابه سياسية، حول تقدير حجم المشاركة الروسية المباشرة في الدونباس. الخبراء الغربيون يصرّون على أنّ عدداً كبيراً من الوحدات الروسية (يقول الباحث اليميني فيليب كاربر انها تبلغ ثماني كتائب كاملة) قد دخل المعركة ولعب دوراً أساسياً في أحداثها. المتمرّدون الأوكرانيون في الشرق يصرّون، بالمقابل، على أنّ الدّور الروسيّ المباشر كان محدوداً واقتصر على الدّعم وايصال «المتطوّعين»، وأنّهم خاضوا بأنفسهم أهمّ المعارك التي هزمت الجيش الأوكراني في صيف 2014. لن نجزم في تفاصيل هذه «الحرب السرية»، وسنعامل القوات الأوكرانية المتمرّدة («الجيش الشعبي») والقوات الروسية التي يُفترض أنها قاتلت الى جانبهم على أنّهما كيانٌ واحد، وسنهدف الى استخلاص سمات هذا الأسلوب الجديد في القتال من خلال مجموعة معارك وأحداث رئيسية شهدها الميدان: قصف زيلونيبيليا، معركة مطار دونتسك، معركة ايلوفايسك، ومعركة ديبالتسيفو.

الراجمات والمدفعية: روحٌ جديدة

على المستوى التكتيكي، يتّفق أكثر المراقبين على أنّ الإبداع الجديد في اوكرانيا، بالمعنى العسكري، كان في استخدام المدفعية والصواريخ. يقول مايكل كوهين، في دراسة للجيش الأميركي عن حرب اوكرانيا، أنّ أكثر من 80% من الخسائر العسكرية سببتها المدفعية والراجمات. الأساس هنا هو أنّ استخدام هذه الأسلحة لم يكن تقليدياً، أو كما ألفنا توظيف الراجمات في حروبنا العربيّة، كسلاح اشباعٍ ناريّ وقصفٍ وتمهيد لا يختلف جذرياً عن المدفعية العاديّة. في اوكرانيا، يكتب عاموس فوكس في بحثٍ لـ«معهد الحرب الحديثة»، تمّ دمج التكنولوجيا المتقدمة مع القدرات النارية الفائقة للراجمات من أجل توليد تأثيرٍ ساحق، أشبه بالغارة الجوية.
هذا التطوّر يحتاج الى توطئة: في الجيوش الغربية، بدأ سلاح المدفعية، منذ التسعينيات، بخسارة دوره التقليدي والمحوري في خطة الحرب، مع انتشار الذخائر الجوية الدقيقة والدعم الجوي الذي يحلّق فوق القوات «على مدار الساعة». حتى حرب الخليج عام 1991، كانت قطع الجيش الأميركي عموماً (من كوريا الى فييتنام) تفضّل الدّعم المدفعي على دعم الطّيران، فالطيران يستلزم وقتاً للوصول الى الميدان وغاراته، على تأثيرها، لم تكن دقيقةً دوماً (خاصة حين تضايقها دفاعات العدو) والتصويب يعتمد على مهارة الطيار. المدفعية، بالمقابل، كانت جاهزة باستمرارٍ للدعم الفوريّ بمجرّد استلامها للإحداثيات، وهي ــــ بمقاييس السبعينيات ــــ أكثر دقّةً من الطيران. بحسب ضابط مدفعية أميركي حارب في فييتنام، في وسع بطارية مدفعية، بعد إطلاق بضع قذائف وتصحيح رميها، أن تُسقط قذائفها باستمرار، طوال اليوم، على بقعةٍ بمساحة منزل. فكان الجيش الأميركي لا يتحرّك ــــ كما في غزو العراق عام 1991 ــــ الّا وخلفه وحدات مدفعية مرافقة، وقد حدّ ذلك في حالات كثيرة من حركية وتقدّم الطوابير الأميركية. هذه الفلسفة انتهت مع تطوّر الذخائر الجوية الدقيقة، والعقيدة الأميركية الجديدة التي جعلت سلاح الطيران بمثابة «مدفعية في الجو»، جاهزة باستمرار لدعم القوى التي تتحرك على الأرض بحريّة وسرعة.
الرّوس وغيرهم، من جهةٍ أخرى، لا يملكون سلاح الجوّ الأميركي ولا يفترضون أنهم سيحظون بالسيطرة الجوية في كلّ معركةٍ مقبلة، فتزايد اهتمامهم بالمدفعية والراجمات بدلاً من أن يقلّ. راجمات الصواريخ في اوكرانيا لعبت، بمعنى ما، دور الغارات الجويّة. بدلاً من أن تستخدم بشكلٍ جبهيّ وقابلٍ للتنبؤ، أصبحت الخطّة هي أن ترصد تجمّعاً معادياً، وتنسلّ براجماتك الى خطوط الجبهة، أو حتى الى داخل أراضي العدو، وتمطره من هناك بنيرانٍ دقيقة وهو غافل. يقول فوكس وغيره من الخبراء إنّ هذا التكتيك أصبح ممكناً بفضل مجموعات «استطلاع وضرب» تعمل على الشكل التالي: يقوم المراقبون الأماميون للكتيبة بتشغيل طائرات الاستطلاع المسيّرة (بشكلٍ خاص «أورلان ــــ 10» الروسية الصغيرة) لرصد أهدافٍ في عمق جبهة العدو، ثمّ ينقلون المعلومات مباشرة (من غير أن تمرّ بالمستويات العليا) الى وحدات المدفعية الملحقة بهم لتصميم «كمينٍ» سريع ــــ وقد سهّلت أجهزة تحديد الموقع عبر الأقمار الصناعية وبرامج ادارة النيران الحديثة (التي يمكن تحميلها على «آيباد» واستخدامها من غير المتخصصين) القصف من أي موقعٍ بدقّة وسرعة، ومن غير تحضيرٍ مسبق.
في نصٍّ لرئيس الأركان الروسية، فاليري غيراسيموف، عن مفهوم «الحرب الهجينة»، تفصيلٌ لهذه الفكرة. يقول غيراسيموف إن وسائل الرصد الحديثة (كالطائرات المسيرة) وأنظمة التواصل والتحكّم الجديدة تتيح اليوم «ضغط الزمن» وتقليص الفجوة بين الرّصد والقصف، ما يسمح بمضاعفة تأثير السلاح المدفعي بشكلٍ فائق. هذا ما تبدّى واضحاً في ضربة «زيلينوبيليا» الشهيرة، حين أُمطر تجمّعٌ مدرّع للجيش الأوكراني، فجأةً، بقصفٍ صاروخي دقيق دمّر (بحسب الأميركي فيليب كاربر) ما يوازي كتيبتين مدرّعتين خلال أقلّ من ثلاث دقائق. قُتل ثلاثون جندياً اوكرانيا حكومياً وجُرح المئات، وتكدّست الآليات المحترقة بالعشرات على الطريق السريع. هذا كلّه، يشير التحقيق الذي جرى بعد سنتين، كان من فعل راجمة «غراد» صغيرة من عيار 122 ملم، حصلت على معلومات دقيقة عبر شاشة طائرة مسيّرة، ونفّذت القصف فوراً.

المرجل والحصار

من هنا، يقول عاموس فوكس، حاول المتمرّدون الأوكرانيون (والقوات الروسية) «اجتذاب» وحدات الجيش الأوكراني الى «مناطق قتل»، يتم فيها حصارهم واستنزافهم وإمطارهم بالمدفعية. هذا ما جرى في مطار دونتسك، الذي اعتبره الاوكرانيون «ستالينغراد» جديدة، ولكنّه كان بالنسبة الى المتمرّدين فرصةً لتجميد قسمٍ كبير من الجيش الحكومي في مطارٍ محاصر، لا قيمة استراتيجية له، ثمّ استنزافه بالمدفعية والراجمات. خسر الأوكرانيون، خلال دفاعهم اليائس عن مطار دونتسك، أكثر من 200 قتيل و500 جريح، ينتمي أكثرهم الى وحدات النخبة في الجيش الاوكراني. في ديبالتسيفو، حصل شيءٌ شبيه: كان الجيش الأوكراني يعوّل على قطع أوصال «الجيش الشعبي» في الدونباس، عبر فصل دونتسك ولوهانسك عن الحدود الروسية ثمّ عزلهما عن بعضها البعض. وكانت ديبالتسيفو هي نقطة الارتكاز الشمالية في هذه الخطّة. يوصّف فوكس جيب ديبالتيسفو على أنّه كان أشبه بـ«لسانٍ» للحكومة الأوكرانية يمتدّ داخل مناطق المتمرّدين شرقاً. قام «الجيش الشعبي» بالهجوم على أطراف الجيب، والتهديد بعزله وخنقه، ثمّ حوّله الى ميدان استنزاف للجيش الحكومي، الذي ظلّ يحاول امداد القوات في ديبالتسيفو وانجادها عبر «نقطة خنقٍ» ضيّقة، صار اسمها «المرجل»، يقصفها المتمرّدون باستمرار. حين تمّ إعلان الهدنة وانسحب الجيش الأوكراني من ديبالتسيفو أخيراً، كان قد راكم خسائر توازي خسائره في مطار دونتسك.
أمّا في مدينة ايلوفايسك، المفصل الثاني في الخطة الأوكرانية لعزل أقاليم الشرق وتقطيع أوصالها، فقد تلقّى الجيش الأوكراني هزيمته الأكبر خلال الحرب. كما في باقي جبهات الدونباس، حين نشير الى «الجيش الحكومي الأوكراني»، فإننا نتكلّم على خليطٍ من الجنود الحكوميين وكتائب اليمين المتطرّف التي تطوّعت للقتال في الشرق. حتّى الضابط الأميركي كوهين يعترف في دراسته بأنّ أكثر القوات الأوكرانية التي قاتلت في ايلوفايسك كانت من ميليشيات المتطوّعين اليمينيين: كتيبة «كريفباس»، كتيبة «دنيبر»، كتيبة «دونباس»، وكتيبة «آزوف» التي يرتدي أعضاؤها، بفخرٍ، «تعويذة الذئب» النازية على أكتافهم (مثل ميليشيات الناتو في بلادنا، لا يخفي اليمينيون في اوكرانيا وجههم الحقيقي، وعنصريتهم واستلهامهم النازية وتعصّبهم القومي، من ينكر ذلك فقط هم داعموهم «الليبراليون» و«اليساريون» في الخارج). سمح المتمرّدون الأوكرانيون لوحدات الجيش بدخول المدينة الاستراتيجية، فهي شرق دونتسك، تقع بينها وبين الحدود الروسية، كما أنها تتحكم بطريق رئيسية تربط دونتسك بلوهانسك، المعقلين الأساسيين للمتمرّدين. بعد ذلك، قامت قوات «الجيش الشعبي» بضرب الكتائب الاوكرانية حول المدينة وطردها ومحاصرة القوة التي تقاتل داخلها. حين وجد الجنرال الاوكراني نفسه مع 1500 جندي محاصرين داخل ايلوفايسك، وهم يتعرضون الى القصف المستمرّ، قام بمحاولة يائسة للفكاك والانسحاب من الفخّ انتهت بأثقل هزيمة عسكرية للجيش الأوكراني وميليشياته خلال الحرب (يدّعي الجنرال، الذي خالف أوامر قيادته وانسحب بمبادرته الخاصة، أنه كان قد عقد اتفاقاً مع الروس للخروج الآمن، وهو ما ينكره الروس والمتمرّدون).
في مقالٍ في «نيويورك ريفيو اوف بوكس»، يتجوّل الكاتب تيم جودا على طريقٍ كان يسلكه طابورٌ حكومي أوكراني منسحبٍ من ايلوفايسك، قبل أن يكمن له المتمرّدون ويدمّروه بالكامل. عدّ جودا 68 آلية محترقة مرميّة على جوانب الطريق، وجزم بأنّ اذلال صيف 2014، والهزيمة القاسية، ستحفر في ذاكرة اوكرانيا طويلاً. تسمّي حكومة كييف ما جرى «مجزرة ايلوفايسك»، اذ قُتل أكثر من ألف جنديّ أوكراني خلال المعركة والانسحاب الفاشل، وأُسر نصف هذا العدد، واضطرّت الألوية الاوكرانية الى الخروج من أغلب اقليم الدونباس.
بعيداً عن الدروس العسكرية لحرب اوكرانيا، فقد بدأ الإعلام الغربي مؤخراً بانتقاد حكومة كييف، وقد انتبه فجأة الى أن النظام مكوّنٌ من تحالفٍ بين اوليغارشيين فاسدين وفاشيين يدعمهم الغرب، بل أنّ الواجهة الليبرالية الرقيقة التي استخدمها هؤلاء في أوّل أيامهم (رجالات «المجتمع المدني» ومنظمات جورج سوروس) قد تمّ التخلّص منها وتهميشها. الانتقادات الغربية لحكومة كييف، للمصادفة، بدأت مع تصاعد مظاهر العداء لليهود لدى اليمين الأوكراني وظهورها في العلن. لسببٍ ما، الإعلام الغربي (والعربي المهيمن) أرادنا أن نتعاطف مع هؤلاء العنصريين وأن نراهم كـ«قوىً ديمقراطية» وأن نخاف من بوتين. ولكن، بالنسبة الى قسمٍ كبير من أهل الشرق الأوكراني، فقد كانت المسألة ببساطة هي أنّ آلاف الفاشيين الغلاظ قد تقاطروا من الغرب ودخلوا أرضهم وحاولوا فرض الهيمنة عليهم ــــ كما جرى خلال الاحتلال النازي قبل ستة عقود ــــ وهم قاموا بسحقهم في دونتسك وايلوفايسك.