منذ أن بدأت اللجان السياسية تجتمع للبحث في قانون الانتخاب، تبدّلت وجوه كثيرة وتغيّرت أسماء المشاركين في البحث عن القانون العتيد، وبات لكل لجنة سياسية نوابها ووزراؤها الذين يناقشون في القانون وفي الانظمة الانتخابية. من بكركي الى ساحة النجمة مروراً بطاولات الحوار السابقة، وصولاً الى دوائر قصر بعبدا، واجتماعات بيت الوسط ووزارة الخارجية وعين التينة ووزارة المال واجتماعات اللجنة الرباعية واللجنة السداسية الموسعة، تبدلت نوعية الحوارات والمشاركين.
في الايام الماضية أضيف النائبان جورج عدوان وإبراهيم كنعان، المتنقلان في جولات مكوكية غير منتجة، الى الطباخين الذين يفاوضون، فازدادت النقاشات عقماً واحترقت طبخة القانون.
لم يتم بعد الاتفاق على مبدأ إجراء الانتخابات وسط العواصف الاقليمية المحيطة بلبنان، فكيف يمكن وفق ذلك الاتفاق على القانون؟ يرسم أحد السياسيين صورة مقلقة، من واشنطن الى السعودية التي يزورها الرئيس الاميركي دونالد ترامب لحضور القمة الاسلامية العربية الاميركية، بغياب رئيس الجمهورية ميشال عون وحضور الرئيس سعد الحريري، قبل أن ينتقل الى اجتماع حلف شمال الاطلسي. ليس تفصيلاً محاولة تبرير غياب عون، والتذرع بحضور وزير الخارجية جبران باسيل، وسط معلومات متداولة عن أن عدم توجيه الدعوة الى عون يعود الى أسباب أميركية وليس سعودية، مع ما يعني ذلك من توجهات أميركية في سياستها الجديدة تجاه إيران والمنطقة (وتذكيراً فإن الادارة الاميركية الحالية ليست هي التي رعت تسوية وصول عون الى الرئاسة). وبين التطورات على الحدود السورية الجنوبية والإنذارت باحتمالات إشعال حرب إسرائيلية ضد لبنان، تبدو الانتخابات اللبنانية على المحك. فمن يملك قرار إجراء الانتخابات في لبنان وسط هذه الصورة الاقليمية والدولية، قبل أن نصل الى الاتفاق على مشروع القانون؟
المفارقة أن المشاركين في اجتماعات قانون الانتخاب يتعاملون مع هذا المشهد الاقليمي المتوتر وكأنه يحدث على مسافة قارة من لبنان وليس على مقربة من حدوده، وحتى عليها، في ظل التهديدات الاسرائيلية، فينحصر البحث في العزف على الوتر الانتخابي نفسه منذ شهور. لكن المفارقة أيضاً أنه على هامش البحث عن القانون، أسفرت نقاشات الاسابيع الأخيرة عن نتائج سياسية سلبية تؤثر على الوضع الداخلي بدل تخفيف الاحتقان، منها: الخلاف بين التيار الوطني والقوات اللبنانية، مهما بالغ الطرفان في تصوير أنه عرضي؛ الاصطفاف الذي تحاول القوات التموضع من خلاله مع الرئيس نبيه بري في ضوء خلاف الأخير مع التيار؛ الخلاف بين الرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط، والذي يحصل للمرة الاولى بهذه الحدة بينهما؛ يضاف الى ذلك كله انكشاف اللغة الطائفية في بلد تقول قيادات مسيحية فيه إن المسلمين لن يقبلوا إعطاءهم نصف عدد مقاعد مجلس النواب، وتقول قيادات إسلامية إن امتلاكها حصصاً في المقاعد المسيحية هو من باب التنوّع والشراكة.

مشكلة التيار أن مقاربته
للقوانين تكاد تكون شخصية
أكثر منها سياسية


لا يمكن تقليل أهمية الخلاف بين الحريري وجنبلاط، ومدى انعكاس ذلك على العلاقات الداخلية، والحساسية التي أوجدها الحريري في طريقة تعاطيه مع الحزب التقدمي وانحيازه الى رئيس الجمهورية، في أسلوب لم يعهده فيه حلفاؤه، في وقت يزداد فيه جنبلاط إصراراً على التعامل مع أي مشروع قانون من زاوية الحفاظ على مصالح الطائفة الدرزية، ويؤازره بري في ذلك، فيما يرفض بري وجنبلاط معاً اللغة التي يعبّر عنها التيار في تمسّكه بالحفاظ على الخصوصية المسيحية. ولا يمكن التعامل مع وقوف القوات الى جانب جنبلاط من باب الشراكة ومصالحة الجبل، لأن للقوات حساباتها في ضوء تحالف الحريري مع التيار، وخلاف الحريري وجنبلاط، وخلاف بري مع باسيل.
فمنذ أن بدأ التيار والقوات يناقشان قانون الانتخاب، لم يتفقا إلا على عنوان استرجاع حقوق المسيحيين ومقاعدهم، لكنهما لم يتفقا في شكل واضح إلا على مشروع اللقاء الأرثوذكسي الذي تراجعت عنه القوات لمصلحة مشروع «المختلط» الذي سوّقت له مع المستقبل والتقدمي الاشتراكي، علماً بأنها اليوم تحاول عبر عدوان أيضاً التوصل الى تسوية «غير مفهومة» ترضي الاشتراكي والرئيس بري. والقوات التي طالبت بالانضمام الى اللجنة الوزارية لتوسيع إطار البحث في قانون الانتخاب، تخرج من التفاهمات السابقة، بحجة ضرورة التوصل الى تسوية يتوافق عليها الجميع، فتؤيد المختلط ومن ثم التأهيلي وصولاً الى النسبية الكاملة التي يرفضها حليفها في إعلان النيات. وهي بذلك تعود الى نقاشات دلّت، وفق تجربة المفاوضات «الاعلامية» التي يقودها عدوان، على عدم حصول أي تقدم فعلي، بدليل مشروع المختلط الذي تخلت عنه في المفاوضات الثنائية والموسعة، وإن ظلت تتمسك به علناً. في الظاهر لم تتخلّ القوات عن حليفها في قانون الانتخاب، لكن في الكواليس ثمة ملاحظات لا تحصى على أداء التيار ورغبته في «الحصرية» كقوة مسيحية كبرى. وفي الكواليس أيضاً رغبة في إعطاء تبريرات لبري وجنبلاط، وكأنهما من خارج المنظومة التي سيطرت على المقاعد المسيحية، ولحسابات تتعلق بتعزيز القوات لاحتمالات فوزها بمقاعد نيابية جديدة، والحفاظ على الحالية منها، بعدما ثبت لها أن التيار بجناحه الرسمي وأجنحته «غير الرسمية» لن يهبها مقاعد نيابية من جزين الى بعبدا وعاليه والمتن وكسروان وزحلة وأقضية الشمال. وهنا يكمن جوهر دخول القوات بقوة على خط الاشتراكي وبري، وحقيقة الاعتراضات على أداء التيار.
قد تختلف حال التيار عن حال القوات من زاوية واحدة، هي أنه ماض في معركته حتى النهاية، ولا يدوّر زوايا فيها، وقدم الى الآن سلسلة مشاريع. لكن مشكلة التيار الذي يقود بجدية معركة الحصص المسيحية ولن يقبل أن يهدي أيّ نصر فيها الى أي طرف، أن مقارعته للقانون تكاد تكون شخصية أكثر منها سياسية. فاقتراح أي مشروع هو بهدف مناقشته لا فرضه، وأي تعليق أو تعبير أو تفاوض حوله لا يستهدف شخص رئيس التيار، بل يهدف الى مناقشة القانون بذاته، إضافة الى أن مشكلة التيار أنه يتمسك بكل ما يطرحه ويكنّى باسمه، ولو كان أصل المشروع نابعاً من اقتراحات تقدم بها بري أو غيره، كما هي حال التأهيلي أو الأرثوذكسي أو المختلط، إضافة الى أن التيار راكم خصومة في معركة القانون مع القوات على الحصص التي تتهمه بأنه «لا يشبع» من الحصول عليها، الى جنبلاط وبري، فيما يعرف في باطنه أن الهدنة مع الحريري هشّة «انتخابياً»، إذا تخطّت الصفقات في ملفات معينة، لأن جزءاً أساسياً من المقاعد المسيحية التي يطالب بها التيار يسيطر عليها الحريري.