ينظّم المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، اليوم، مؤتمراً بعنوان «الصناعة البتروليّة في لبنان: أوراق عمل في السياسات العامّة وقضايا هيكليّة»، يعرض خلاله «مقاربة شاملة ومتكاملة للسياسة النفطيّة في لبنان» أعدّها خبراء متخصّصون في الاقتصاد والنفط، ويناقشها مع المعنيين، بهدف بلورة اقتراحات علميّة يعوّل عليها في رسم سياسات ملائمة لواقع القطاع البترولي اللبناني، ووضع الأسس المناسبة لصناعة بتروليّة وطنيّة قادرة على المنافسة في ظروف محليّة وإقليميّة معقّدة، بعدما أبدت الدولة اللبنانيّة، أخيراً، اهتماماً مركّزاً في هذا القطاع، وأصدرت مرسومي تقسيم البلوكات البحريّة ونموذج اتفاقيّة استكشاف النفط ودفتر الشروط، وأعلنت عن الشركات المؤهّلة للمشاركة في المزايدة على البلوكات المفتوحة.
يتضمّن المؤتمر أربعة محاور رئيسيّة، تتناول «المعالم الأساسيّة للسياسة الوطنيّة لقطاع البترول»، باعتبارها من المرتكزات الضروريّة لنشوء سياسة نفطيّة ناجحة، على أن تتضمّن مناقشة الخطّة الأكثر ملاءمة للواقع اللبناني، والمعالجة الأساسيّة الأمثل لإدارة القطاع. يتصل المحور الثاني بنقاش حول «الصندوق السيادي ودوره في حوكمة الإدارة الماليّة للثروة البتروليّة»، بما يجنّب لبنان لعنة الموارد، عبر البحث في كيفيّة تطبيق المعايير الدوليّة للشفافيّة في إدارة القطاع. أمّا المحور الثالث فيتطرّق إلى «دور شركات البترول الوطنيّة في إدارة وتطوير قطاع البترول»، على أن يتضمّن نقاشاً مفتوحاً في شروط ومبرّرات إنشاء شركة وطنيّة، وبحث في تحديدات لطبيعة هذه الشركة وهيكليتها التنظيميّة ودورها في الصناعة البتروليّة اللبنانيّة وصلاحياتها، وتداعيات التأخر في إطلاقها على الصناعة النفطيّة. أمّا المحور الأخير، فيدور حول «الموارد البشريّة اللازمة لتطوير الصناعة البتروليّة محلياً من خلال النظام التعليمي كنموذج أولي».

مقاربة للسياسة النفطيّة



معدل ضريبة الدخل هو الأدنى عربياً والسادس الأدنى بين 43 دولة
الورقة الأساسية، التي وضعها المركز حول السياسة النفطيّة، وسيقدمها رئيسه عبد الحليم فضل الله في الجلسة الافتتاحية صباح اليوم، في فندق الريفييرا في بيروت، تتضمّن مجموعة من الاقتراحات العلميّة والعمليّة لمواجهة التأخير، الذي أصاب إطلاق هذا القطاع، وما نجم عنه من تأثيرات على عوامل جذب واستقطاب الشركات العالميّة. وتستند هذه الاقتراحات إلى مجموعة من التجارب العالميّة الناجحة لبعض الدول، التي استهلكت وقتاً طويلاً في إطلاق عمليّات التنقيب والإنتاج، مع تفادي إسقاط نماذج خارجيّة كما هي، أمّا الأهداف الكبرى التي حددتها الورقة، فهي: 1- خلق أفكار متنوّعة وتوسيع دائرة النقاش حوله، لتجنّب الوقوع في فخّ التسعينيات، حيث ترك لوجهة نظر واحدة وطرف واحد وإيديولوجيا واحدة أن تقرّر في مصير مشروع بأهمّية إعادة بناء الدولة اللبنانيّة بعد الحرب. 2- الاستفادة من هذا القطاع المتشعّب، الذي هو عبارة عن صناعة تتكامل مع صناعات وخدمات أخرى، لتعزيز المكوّن المحلي في الأنشطة البتروليّة وتوسيع طاقة الاقتصاد. 3- مواجهة التوزيع غير العادل لعائدات النفط والغاز الذي يفاقم الاحتقان الاجتماعي، وعدم جعل الريوع النفطيّة بديلاً للتنمية الماديّة والبشريّة، كما عدم تحويل المال النفطي إلى مال سياسي بما يفاقم مشكلات هذا الوطن. ويمكن تلخيص مجموع
الأفكار التي تضمنتها الورقة بالآتي:

السياسات العامّة


تعدُّ السياسات العامّة وبناء القدرة الاستيعابيّة والخلاقة للدولة من أهم أساسات بناء هذا القطاع، وتتضمّن تعزيز المشاركة الوطنيّة وزيادة المكوّن المحلي في مراحل الإنتاج. توطين الأنشطة النفطيّة داخل البلد قدر الإمكان وتطوير هذه العمليّة. زيادة قدرة الدولة على التحكم بسرعة الأنشطة البتروليّة بما يتناسب مع السياسات العامّة من خلال الشركة الوطنيّة كمثال أو امتلاكها حصصاّ في رخص الاستشكاف والإنتاج، بما يقوي موقعها في اتخاذ القرارات التشغيليّة. إيجاد هيكل تشريعي ومؤسساتي لاتخاذ القرار بما يتناسب مع أهمية السياسات والاستراتيجيات المطلوب وضعها والقرارات المطلوب اتخاذها. اتخاذ كلّ الإجراءات الاستباقيّة اللازمة لتجنّب الوقوع في لعنة الموارد من خلال دمج الصناعة النفطيّة بالاقتصاد الوطني وإقامة شبكة من الصناعات والخدمات المتقدّمة المرتبطة بالنفط، مع العمل على فصل الاستهلاك والإنفاق المحليين عن عائدات النفط، كما فصلها عن الموازنة العامّة وعدم الرهان عليها وحدها لحلّ المشكلات الماليّة أو إطفاء الدين العام. بناء القدرة الاستيعابيّة الخلاقة للبلد من خلال تنمية الصناعة الوطنيّة وتعزيز قطاع البحث والتطوير.

توظيف العائدات

تقول الورقة إن هناك مبحثين أساسيين يتعلّقان بالاستخدامات المالية والتوظيفات الاقتصاديّة للعائدات البتروليّة: أولهما إيجاد نقطة توازن بين التسهيلات المطلوب تقديمها لتشجيع الشركات على المساهمة في عمليات الاستكشاف والإنتاج، والحفاظ على حقوق الخزينة وتعزيز إيراداتها وخفض العجز المزمن الذي تعانيه. إن ضريبة الدخل التي أقرت في مشروع القانون الذي وافق عليه مجلس الوزراء هي 20%، وهو المعدّل الأدنى عربياً (24% في ليبيا، 55% في عمان، 28% في سوريا، 35% في العراق وقطر، 38% في الجزائر)، والسادس الأدنى بين 43 دولة أجرى المركز بحوثاً عنها، وتعتمد كما لبنان على عقود المشاركة في الإنتاج، إذ يبلغ متوسط ضريبة الدخل فيها نحو 31%. وبحسب تحليل نتائج السياسات الماليّة والاقتصاديّة للدول النفطيّة، يظهر أن اعتماد ضريبة دخل على الشركات لا يعد عامل تحفيز، مقارنة مع حوافز ماليّة أخرى مثل الإعفاءات الجمركيّة وخفض الضرائب في مرحلة البحوث والتطوير والإجازات الضريبيّة وقواعد الاهتلاك المعجّل وترحيل الخسائر، التي ساهم تطبيقها باجتذاب شركات أجنبيّة من دون التفريط بعائدات الخزينة. فيما يمكن اعتماد ضريبة دخل تصاعدية ربطاً بحصة المستثمر من بترول الربح.
وثانيهما، وضع استراتيجيّة لكيفيّة تصرف الدولة بهذه العائدات التي ستتدفّق فجأةً على الاقتصاد اللبناني وترفع نصيب الفرد من الناتج ليكون ضمن الفئة العليا في المداخيل في المنطقة. هناك ثلاثة نماذج لمجموعات من الدول، واحدة ركّزت على استهلاك مواردها من النفط والغاز داخلياً (الدول الصناعيّة)، وثانية اعتمدت على التصدير وضخت جزءاً من العائدات في مشاريع تنمية طويلة الأمد بهدف تعزيز قوة الدولة. وثالثة وجّهت عائداتها لتسهيل قيام اقتصاد استهلاكي هشّ (دول الخليج)، علماً بأن النقاش اللبناني في هذا الشأن لا يزال خجولاً، وهناك وجهتا نظر: الأولى ضمنتها إحدى الوثائق الحكوميّة الصادرة في عام 2010، ورأت أن مبيعات البترول يجب أن تكرّس عوائدها لسداد مستحقات الدين، إلى أن يتراجع إلى ما دون الـ 60% من الناتج المحلي الإجمالي. ووجهة النظر الثانية تدعو إلى تخصيص الجزء الأكبر من الإيرادات للدعم الاجتماعي، على أن تطبق ضريبة تصاعدية تعيد للدولة جزءاً من فوائض النفط والغاز على حساب الأغنياء.
فيما هناك خيار ثالث، يعطي أولويّة للاستخدامات المحليّة للغاز في توليد الطاقة الكهربائيّة والاستهلاك المنزلي، وللنفط من خلال إعادة تشغيل معامل التكرير، على أن تكرّس عائدات الصندوق السيادي لتطوير البنى التحتيّة وخفض الدين العام وتكوين احتياطات وطنيّة طويلة الأمد، وأن يوظّف جزء من أصول الصندوق في سندات الدين العام بما يخفض معدلات الفائدة ويزيد مستويات الاستثمار.

الإدارة الرشيدة والهيكل المؤسساتي

تؤكد الدراسات وجود علاقة بين ضعف مؤشرات الحكم الرشيد والوقوع في لعنة الموارد، لذا لبنان ملزم ببذل جهود كبيرة لتحصين قطاع النفط، وعزله عن البيئة الإدارية والسياسية العامة التي تعاني خللاً جسيماً في منظومة الرقابة والمحاسبة. وفي وقت يسجّل فيه للبنان إيجاده المنظومة المؤسساتيّة اللازمة لإدارة هذا القطاع، إلّا أنه لم يثبت أنها محرّرة من الضغوط بل تبدو خاضعة لآليات النظام المتعثّرة والميّالة إلى التعطيل.
كل ذلك، بحسب الورقة، يستوجب تطوير أجهزة الرقابة والمحاسبة لمواجهة الفساد البنيوي والفساد الذي تأتي به الشركات العملاقة، الذي يصعب مقاومته بأسلحة مكافحة الفساد التقليديّة، إضافة إلى تطوير هيكليّة اتخاذ القرار النفطي بما يوازن الجوانب السياسيّة والإداريّة والتشريعيّة، وبناء قدرة استيعابيّة للدولة عبر تحييد القطاع عن منطق المحاصصة، واستخدام عائداته في تحويل هذه الثروة الطبيعيّة إلى ثروة إنتاجيّة ورأسمال مادي وبشري واجتماعي وتطوير قطاع الصناعة ودعمه ومضاعفة الاستثمارات فيه.
(الأخبار)