سيُسجَّل تاريخ الـ24 من أيار 2017 يوماً فارقاً جديداً في مسار الصراعات الخليجية البينية. بعد حوالى سنتين ونصف سنة من «وفاق إكراهي» تحقّق بموجب ما سُمّي «المصالحة الخليجية» التي أعقبت أزمة سحب السفراء في آذار 2014، بدا ليل أمس أن علاقات قطر بـ«شقيقاتها» مقبلة على مرحلة غير مسبوقة من التأزم، تُنذر المواقف السعودية، حتى الآن، بأنها قد تبلغ نقطة اللاعودة.
ظهر الأمر، ولا يزال، أشبه بـ«حرب مفتوحة» على الإمارة «المشاكسة»، تعيد نبش ملفات الماضي، وتؤسّس على تصريح منسوب لأمير قطر، تميم بن حمد، لتقريع الدوحة بوصفها «شوكة في خاصرة العرب»، وتهديدها بأنها ستدفع ثمن «خيانتها». فصل أشد ضراوة من صراع قطري ــ خليجي لم تُغلق ملفاته يوماً بقدر ما تم ترحيلها ودفنها تحت الرمال المتحركة. فصل لا يبدو معزولاً عن «المهرجان» (على حدّ تعبير صحف محسوبة على قطر) الذي أُقيم للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في السعودية. فهل يُعدّ «الكباش» المستجد بين السعودية والإمارات من جهة، وقطر من جهة أخرى، شرخاً في ما أرادته الرياض إجماعاً عربياً إسلامياً على محاربة إيران برعاية واشنطن وتل أبيب؟ أم أن الهجمة الخليجية الشرسة على الدوحة يمكن عدّها إرهاصاً للتغييرات المرتقبة في المنطقة بعد زيارة ترامب؟


لم تهضم قطر، ومن ورائها تركيا قائدة المشروع «الإخواني»، أن تكون السعودية المحجّة الأولى لساكن البيت الأبيض الجديد وحكام الدول العربية والإسلامية. واقعة من هذا النوع كانت تعني، بالنسبة إليها، التسليم بأهلية الرياض لقيادة مشروع «خليجي ــ عربي ــ إسلامي» في المنطقة. هي التي بذلت كل ما في وسعها، وأنفقت الكثير مما في جيبها، لتهشيم تلك القيادة، سواء في سوريا، حيث ألقت بثقلها خلف الفصائل والجماعات المحسوبة عليها لتضييق الخناق على أخصامها الموالين للسعودية، أو في العراق حيث تعمل جاهدة على انتزاع مشروعية «تمثيل السنّة وقيادتهم»، أو في اليمن، الخارطة الأكثر تعقيداً، حيث تتصرف بهدوء على قاعدة «دع السعودية تعمل، دع السعودية تخسر»، أو في ليبيا حيث لا يزال دعمها متواصلاً للأطراف الموالية لها في الحرب الأهلية الدائرة في البلاد، أو في مصر حيث تستمر الحرب على النظام، الثابت حتى الآن على تحالفه مع السعودية والإمارات، على الرغم من أن وقف الحملات الإعلامية على ما تراه الدوحة «انقلاباً في مصر» كان من شروط «المصالحة الخليجية».

قد تكون الحرب الإعلامية مقدمة لخطوات أكثر جرأة ضد قطر و«الإخوان»

زادت الأمر سوءاً النيّات «الترامبية» إزاء جماعة «الإخوان المسلمين»، والأحاديث المتواصلة عن عزم واشنطن إدراج الجماعة على لائحتها للتنظيمات الإرهابية، مع ما قد يستتبعه ذلك من خطوات أكثر جرأة ضد «الإخوان» في غير ساحة من الساحات التي ينشطون فيها. في النتيجة، كان السكوت والرضاء القطريان بـ«المهرجان السعودي» لترامب يعني، بكل بساطة، أن الدوحة تطلق النار على نفسها. فما الذي فعلته الإمارة «المشاغبة»؟ لم تعمد إلى خفض مستوى تمثيلها في قمة الرياض، كما فعلت تركيا التي أوفد رئيسها، رجب طيب أردوغان، وزير خارجيته مولود جاويش أوغلو، إلى القمة، تعبيراً عن «استعلاء سلطاني» على ما كان دائراً في السعودية من «تذلل»، بل عمدت إلى «لعبتها» المعهودة في تسخير «امبراطوريتها» الإعلامية لإيصال رسائل سياسية (خصوصاً بعدما عمد مستضيف القمة، الملك سلمان، إلى التعقيب على المداخلة العنيفة للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ضد تركيا وقطر، بالقول: «نؤيّدكم في ما قلتموه، وسندعمكم...»).
منذ ما قبل بدء زيارة ترامب للسعودية حتى انتهاء زيارته لإسرائيل، عزفت وسائل الإعلام القطرية، المكتوبة والمرئية، على أنغام واحدة: استهزاء بالرياض التي تحولت خلال أيام إلى «ورشة عمل استثنائية» للتجهيز لاستقبال ترامب؛ تشكيك في ما يمكن أن تسفر عنه الزيارة أكثر من الخطابات و«الكلام المعسول» والوعود والتهليل السعودي؛ تشديد على مصلحة إسرائيل، حصراً، في ما شهدته الأيام الماضية، خصوصاً أن ترامب اكتفى، في ختام زيارته تل أبيب، بـ«ببضع جُمل» حول «حكمة وذكاء الزعماء العرب»، فيما «تجنّب النطق» بأيّ كلمات يمكن أن تُفهم منها مطالبة حكومة نتنياهو بتنازلات؛ استياء واضح من وضع حركات المقاومة الإسلامية، خصوصاً منها حركة حماس، في سلة واحدة مع التنظيمات الإرهابية والدعوة إلى محاربتها (اقتصرت وسائل الإعلام القطرية في تجليتها هذه المفارقة على ذكر «حماس»، علماً بأن «حزب الله» وُضع في السلة نفسها أيضاً)؛
تغطية هجومية انتقادية (كان لافتاً، على هامش تلك التغطية، نشر إحدى الصحف المحسوبة على قطر مقالاً لوزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، عشية القمم الثلاث في الرياض) رافقتها تصريحات قطرية رسمية تدين الحملة التي تستهدف الدوحة، بالتزامن مع زيارة ترامب، على خلفية «دعمها للمنظمات الإرهابية»، في عملية دعائية يُعتقد، على نطاق واسع، أن مؤسسات الـ«بروباغندا» الإماراتية العاملة في الولايات المتحدة ودول غربية أخرى هي التي تقف خلفها. وهو ما يشي بأن الانقضاض السعودي الإماراتي، ليل أمس، على قطر، لم يكن وليد لحظته، بل ربما تم الإعداد له قبل فترة، والتهيئة لإطلاقه بضربات إماراتية «تحت الحزام» موجهة إلى الدوحة.

البيان «القنبلة»

ظل الاغتياظ السعودي من التهجم القطري على زيارة ترامب ومجرياتها ونتائجها مكتوماً حتى ليل أمس، حيث جاء البيان المنسوب لأمير قطر، والذي ينتقد فيه السعودية والإدارة الأميركية الجديدة ويغازل إيران، ليمثل القشة التي قصمت ظهر البعير. وعلى الرغم من نفي الرئيس التنفيذي لمؤسسة «قطر للإعلام»، عبد الرحمن بن حمد آل ثاني، ومدير مكتب الاتصال الحكومي، سيف بن أحمد آل ثاني، صحة التصريحات المنسوبة لتميم، وتأكيدهما تعرّض موقع وكالة الأنباء القطرية الرسمية «قنا» للاختراق، أصرّت وسائل الإعلام السعودية والإماراتية على فتح الهواء مباشرة لتغطية التصريحات والرد عليها.
ساعدها على ذلك عاملان: أن النفي القطري لتصريحات تميم جاء بعد حوالى ساعة ونصف من انتشار الخبر وتداوله على نطاق واسع، وأنه، كذلك، لم يأت على لسان الديوان الأميري أو وزارة الخارجية بل على لسان موظف إعلامي حكومي. والعامل الثاني أن جزءاً من التصريحات المنسوبة لأمير قطر كانت جلته، مسبقاً، التغطية القطرية لزيارة ترامب، كما في قوله: «إنه لا يحق لأحد أن يتهمنا بالإرهاب لأنه صنّف الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، أو رفض دور المقاومة عند حماس وحزب الله»، وإن «العلاقة مع الولايات المتحدة قوية ومتينة رغم التوجهات غير الإيجابية للإدارة الأميركية الحالية»، وإن على السعودية «العمل الجاد المتوازن بعيداً عن العواطف وسوء تقدير الأمور، مما ينذر بمخاطر قد تعصف بالمنطقة مجدداً نتيجة ذلك».
أما الجزء الآخر من تصريحات تميم المفترضة، فقد كان صدر ما يشبهه، وإن بلهجة مواربة وأقل حدة، خلال زيارة ترامب، مثلما في قوله: «إن ما تتعرض له قطر من حملة ظالمة تزامنت مع زيارة الرئيس الأميركي إلى المنطقة، وتستهدف ربطها بالإرهاب، وتشويه جهودها في تحقيق الاستقرار معروفة الأسباب والدوافع، وسنلاحق القائمين عليها من دول ومنظمات». وفي الجزء الثالث من التصريحات المفترضة، تبرز المحددات الاستراتيجية القطرية المعروفة سلفاً، وإن في موقف أكثر تقدماً وجرأة، كما في الآتي: «ليس من الحكمة التصعيد معها (إيران)، خاصة أنها قوة كبرى تضمن الاستقرار في المنطقة عند التعاون معها، إنها (قطر) تودّ المساهمة في تحقيق السلام العادل بين حماس الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني وإسرائيل».
الجديد في البيان المنسوب إلى تميم هو التهجّم المباشر على السعودية، على خلفية «تبنّيها نسخة متطرفة من الإسلام لا تمثل حقيقته السمحة»، ومبالغتها «في صفقات الأسلحة التي تزيد من التوتر في المنطقة، ولا تحقق النماء والاستقرار لأي دولة تقوم بذلك»، واعتباره أن قاعدة العديد الأميركية «تمثل حصانة لقطر من أطماع بعض الدول المجاورة» في إشارة مبطّنة إلى السعودية والإمارات (قال الأمير تميم أيضاً في هذا المفصل من التصريحات إن قاعدة العديد «هي الفرصة الوحيدة لأميركا لامتلاك النفوذ العسكري في المنطقة، في تشابك للمصالح يفوق قدرة أي إدارة على تغييره»، في تعبير عن استياء الدوحة من التطنيش «الترامبي» لها).

وجهت قطر
رسائل انتقادية لزيارة ترامب للسعودية رغم حضور تميم

تلقّفت وسائل إعلام الرياض وأبو ظبي التصريحات القطرية المفترضة بنهم كبير، واستضافت، على مدار ساعات ليل الثلاثاء ــ الأربعاء، محللين من مصر والسعودية والبحرين أسهبوا في مهاجمة قطر وسياساتها. مهاجمة كان مقدمو التغطية شركاء فيها، من خلال أسئلتهم التي بدت أشبه ببيانات سعودية رسمية تُتلى عليهم من فوق. وما زاد الطين بلة خبر نُشر على صفحة وكالة الأنباء القطرية الرسمية «قنا» على موقع «تويتر»، مفاده سحب الدوحة سفرائها من الرياض والكويت والمنامة وأبو ظبي والقاهرة. وهو ما عاد وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، ونفاه على نحو مرتبك ومشوّش قائلاً: «إنه لم يقل سحب أو طرد السفراء، وإن تصريحه أخرج من سياقه»، فيما ذكرت «قنا» أن «حسابها على تويتر تمت قرصنته، وأن الجهود تجري لاستعادته»، في تناقض غير مفهوم.
أكثر من ذلك، بلغ الأمر بقناة «العربية» حدّ استعادة تسجيلات منسوبة لأمير قطر السابق حمد، تُبيّن «تآمره» مع نظام معمر القذافي على إسقاط الملكية السعودية، في حين نشر موقع القناة تقريراً باسمها يتهم الدوحة بـ«تسخير إمكاناتها لسنوات طويلة لتكون صوتاً للجماعات المتشددة»، وبـ«خلط الأوراق في المنطقة إثر ثورات الربيع العربي». وأوردت صحيفة «عكاظ» السعودية، بدورها، التصريحات المنسوبة لتميم تحت عنوان: «تثير الاستهجان وتتحدى الإرادة الدولية: قطر تشق الصف... وتنحاز لأعداء الأمة». وبعدما بادرت هيئة تنظيم الاتصالات الإماراتية إلى حجب موقع «الجزيرة نت»، عمدت الجهات المختصة في السعودية إلى حجب مواقع قطرية من بينها «الجزيرة نت، قنا، الوطن، الراية، العرب، والشرق»، فضلاً عن «مجموعة الجزيرة الإعلامية» و«الجزيرة الوثائقية» و«الجزيرة الإنجليزية». وفي ردّها على الخطوات السعودية والإماراتية، دانت وسائل الإعلام القطرية «التضليل الإعلامي» الذي تمارسه قنوات الرياض وأبو ظبي، متحدثة عن «نية مبيّتة للإساءة إلى قطر». وفي وقت لاحق، أصدرت وزارة الخارجية القطرية بياناً استغربت فيه «موقف بعض وسائل الإعلام والفضائيات التي نشرت تصريحات كاذبة (منسوبة) لأمير البلاد رغم صدور بيان ينفي صحتها»، مؤكدة أن الدوحة «فتحت تحقيقاً لمعرفة الجهات التي تقف خلف اختراق موقع الوكالة الأنباء القطرية (قنا)»، بمساعدة «دول شقيقة وصديقة» لم تسمّها.

إلى أين؟

سواء كانت التصريحات المنسوبة إلى أمير قطر حقيقية على طريقة السياسيين العرب في جسّ النبض واستكشاف النيّات (يسهل بعد التسريب نفي الكلام ونسبه إلى قرصنة)، أو مكذوبة بفعل فاعل، فإن الأجواء التي سادت خلال الأيام الماضية خط الدوحة ــ الرياض تُنبئ بأن صفحة «المصالحة الخليجية» ستُطوى، لتُفتح بعدها صفحة من الصراع البيني الذي قد لا يقف على حدود ما شهدته السنوات الفائتة. صراعٌ لا يُستبعد أن تكون بوادره المتسارعة اليوم توطئة لتفاعلات زيارة ترامب للمنطقة، والتي يظهر أن من ضمنها محاولة حسم ملف النزاع مع «الإخوان» وراعيتهم الخليجية قطر، على قاعدة ترتيب أوراق البيت الداخلي، وفي مقدمها الملف المذكور إلى جانب الملف البحريني، قبل التفرغ للملفات الأكثر خطورة. وفي انتظار ما ستكشفه الأيام المقبلة، تبدو مفيدة مراقبة الساحة اليمنية، لا لكونها المختبر المنتظر لجدية وعود ترامب للسعودية فقط، بل باعتبارها أيضاً المعمل لمختلف وجوه الصراعات الخليجية. وعلى مستوى الصراع مع قطر، فإن التعامل السعودي، مستقبلاً، مع حزب «التجمع اليمني للإصلاح» (فرع الإخوان المسلمين في اليمن) وأذرعه العسكرية، هو ما سيكون ذا دلالة بالغة.




ليلة انتصار ابن زايد!

على الرغم من أن السعودية تصدرت، ليل أمس، الهجمة على قطر، فإنّ الإمارات لم تكن بعيدة من المشهد، بل سبقت السعودية في العديد من مفاصل «الحرب الإعلامية» بين الجانبين. إذ إن أبوظبي عمدت إلى حجب موقع «الجزيرة نت» حتى قبيل انتشار التصريحات المنسوبة إلى أمير قطر، لتبدأ بعد ذلك عبر قنواتها، وفي مقدمتها «سكاي نيوز عربية»، تغطية «شرسة» لتلك التصريحات ومفاعيلها.
سبقٌ يرى فيه العارفون بالشأنين السعودي والخليجي ارتباطاً وثيقاً بالصراع «المكبوت» بين تيار محمد بن زايد ومحمد بن سلمان المناوئ لـ«الإخوان»، وبين تيار محمد بن نايف الذي يكنّ كراهية لبن زايد على خلفية وصف الأخير لوالده نايف بـ«القرد»، وفق ما كشفت «ويكيليس»، ويُفضّل العلاقة مع «الإخوان» لجملة أسباب من بينها تحقيق التوازن مع ولي العهد الإماراتي. ويرى هؤلاء المراقبون أن ما جرى ليل أمس ظهّر بوضوح ميلان الكفة لمصلحة المعسكر الأول، الذي عمد قطبه السعودي (بن سلمان)، أخيراً، إلى تقريب الشخصيات الإعلامية السعودية المحسوبة على بن زايد (كعبد الرحمن الراشد وخالد الدخيل) من بلاطه.