ليست مشكلة الكهرباء في التقنين فقط. انعكاسات الأزمة الكهربائية في لبنان تمثّل حلقة متكاملة. حلقة تؤثر على ضعف النمو الاقتصادي، على ارتفاع كلفة الدين العام وخدمته، على ارتفاع العجز في الموازنة، على استمرار نهج علاجي ذي أفق ضيق. يمكن أن تكون الأرقام المتعلقة بالكهرباء صادمة. يمكن أن تكون أكثر مما يتوقعه أكثر الممتعضين من الانقطاع الدائم للكهرباء. مثلاً، قيمة خسارة الدولة في كل ساعة واحدة من إنتاج الكهرباء تبلغ 273 ألف دولار. وبما أن الإنتاج يصل إلى 8500 كيلواط/ساعة في السنة، تبلغ الخسارة السنوية، بسبب عدم إصلاح قطاع الكهرباء وعدم الانتقال في الإنتاج من الفيول إلى الغاز، مليارين و320 ألف دولار. إنها كارثة فعلية، وليست خسارة عادية.لنوسّع «البيكار». يُعَدّ إنفاق الدولة على الكهرباء من الأعلى في أبواب الإنفاق في الموازنة العامة. النسبة التقريبية لهذا الإنفاق تبلغ نحو 20 في المئة من إجمالي الإنفاق العام. فاتورة الإنفاق على الكهرباء منذ منتصف التسعينيات حتى الآن تمثّل 40 في المئة من إجمالي الدين العام المتراكم. المدهش في ذلك، أن الدولة أنفقت نحو 25 مليار دولار خلال هذه الفترة على هذا القطاع. إلا أن أقل من 10 في المئة من هذا المبلغ أُنفق لتحسين القطاع، بحيث لا يتعدى الإنفاق على الإنشاءات نحو مليارين و500 مليون دولار!
عجائب الكهرباء حضرت على طاولة مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية في ندوة بعنوان «الكهرباء المستدامة لكل لبنان». محاضرون رموا الأرقام على رؤوس الحضور، فكانت عبارات الاستهجان والاستغراب تُطلق عند كل رقم يُعلن. وزير الطاقة والمياه، جبران باسيل، أكد أن كلفة الكهرباء التقديرية المباشرة على الاقتصاد اللبناني (من دون احتساب الخسائر غير المباشرة) تبلغ 6 مليارات دولار سنوياً، فيما الناتج القومي هو 40 مليار دولار. ما يعني أن هذه الكلفة تمثّل نحو 15 في المئة من الناتج القومي. إذا أُضيف موضوع المحروقات والتكاليف التي يتكبدها الاقتصاد نتيجة غياب سياسة طاقوية ورؤية واضحة في البلاد، يصبح هنالك 4 مليارات دولار خسائر إضافية من شراء المحروقات ومن أكلاف النقل مباشرة. الحصيلة أن أزمة الكهرباء وذيولها تكبّد لبنان نحو 10 مليارات دولار، أو نحو 25% من الناتج القومي، وإن هذا الرقم منفرداً يؤكد مدى كبر المشكلة بنيوياً على الاقتصاد نتيجة عجز الكهرباء ومشكلة الطاقة في لبنان. الكهرباء أصبحت كارثة حقيقية، يقول باسيل. استمرار الوضع سيؤدي إلى الانفجار، اجتماعياً واقتصادياً. ها هم المواطنون يدفعون ملياراً و700 مليون دولار للمولدات الخاصة. يتكبد المواطنون كذلك خسائر مباشرة من جراء الأعطال الكهربائية بنحو مليار و500 مليون دولار من حيث تأثير انقطاع الكهرباء على المواد الغذائية وتعطيل للقطع الكهربائية والصناعات والزراعات وغيرها.
هذه الوقائع تنقل الأزمة إلى الضفة الثانية. كيف تتعاطى السلطات المعنية مع ملف الخسائر هذا؟ تبدأ المشكلة بعدم وجود سلطة سياسية ترمي إلى الإصلاح في هذا القطاع، بحسب رئيس مركز البحوث والاستشارات كمال حمدان، بحيث لا يتوافر أي إمكان لمراقبة تنفيذ مشاريع الوزراء المتعاقبين على الكهرباء، ولا لمتابعة تفاقم الأزمة الكهربائية؛ إذ ترتفع كل المؤشرات السلبية في لبنان لتجعل كلفة إنتاج الكهرباء من الأعلى، وخصوصاً من ناحية الإنفاق العام. فإن يصل هذا الإنفاق إلى 40 في المئة من إجمالي قيمة الدين العام المتراكم، فهذا يُعَدّ «كفراً». وإن جرى التغاضي عن الحلول العملية للأزمة، فهذه أزمة بحدّ ذاتها؛ إذ إن تعرفة الكهرباء مجمدة منذ أكثر من 15 عاماً. في المقابل، لا جرأة لطرح مشاريع مكلفة قليلاً، لكنها توصل إلى نتائج. تشير دراسة أعدها مركز البحوث لمصلحة البنك الدولي إلى أن نحو 58 في المئة من اللبنانيين يلجأون إلى المولدات الخاصة، فيما الذين يستهلكون 5 أمبير من هذه المولدات (أي المحدودو الدخل) هم الأكثر قابلية واستعداداً لدفع تعرفة أعلى مقابل توفير كهرباء مستدامة.
يشرح حمدان عن عقلية سائدة تقول إن الاصطدام بعراقيل إصلاحية يجب أن يعوض باستثمارات جديدة. هذه العقلية هي نقطة الانطلاق التي جعلت الحكومات المتعاقبة بعيدة عن الاستثمار في صيانة معامل الإنتاج، وعن الاستثمار في العامل البشري، ما أدى إلى تفاقم المشكلة.
وبين عجيبة وأخرى، تظهر أسباب العجز الكهربائي ومسبباته؛ إذ يرتفع سعر البترول بنسبة 25 في المئة سنوياً خلال الأعوام 2009 و2010 و2011. في المقابل، تشهد أسعار الغاز انخفاضاً. المعامل الإنتاجية التي صممت للغاز لا تزال تستخدم الفيول. «هنا سبب المشكلة الأساسي» يقول رئيس جمعية الصناعيين نعمة افرام. فسعر الكيلواط/ ساعة إلى المواطن يبلغ 11 سنتاً، فيما كلفة إنتاج الكيلواط هي 20 سنتاً. بما أن مؤسسة الكهرباء تجبي 60 في المئة فقط من قيمة ما تبيعه من كهرباء، ترتفع كلفة إنتاج الكيلواط إلى 34 سنتاً. وهكذا تخسر الدولة 247 ألف دولار في إنتاج كيلواط واحد كل ساعة. بالتالي، ترتفع الخسارة إلى مليارين ونص مليار دولار نتيجة إنتاج المؤسسة 8500 كيلواط/ ساعة سنوياً. هذه الأرقام مبنية على أساس سعر برميل البترول 95 دولاراً! فماذا سيحدث حين يرتفع عن هذا المعدل؟ حينها سيرتفع الدين العام إلى 85 مليار دولار في عام 2015، مع ارتفاع في عجز الموازنة يصل إلى 18 في المئة! يشرح افرام أن استيراد الغاز لتشغيل المعامل لا تتعدى كلفته 500 مليون دولار، إلا أنه يخفض من كلفة الإنتاج أضعافاً.