«الرئيس (محمود) عباس اقترح خطوات جيدة لمكافحة الإرهاب، لكن لا يمكن دفع السلام قدماً وتمويل الإرهاب في الوقت نفسه»، الكلام للرئيس الأميركي دونالد ترامب، مخاطباً عباس، إبان المؤتمر الصحافي الذي جمعهما في بيت لحم خلال «الجولة المهرجانية»، كما وصفها معلق إسرائيلي، لترامب قبل أسابيع إلى المنطقة. في حديثه عن «تمويل الإرهاب»، قصد الأخير الرواتب الشهرية التي تدفعها السلطة الفلسطينية للأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وكذلك لعوائل الشهداء، في تماهٍ مباشر وصريح مع الموقف الإسرائيلي في هذا الشأن.
موقف ترامب لم يكن من خارج السياق، ولا سيما في ضوء الاندفاع الذي أظهره حتى الآن في محاباة إسرائيل. على أي حال، هذا هو المألوف من الإدارات الأميركية المتعاقبة، فضلاً عن الكونغرس ومزايدات أعضائه في التزلف لتل أبيب.
أما الحكومة الإسرائيلية، فمن الواضح أنها عثرت على «دعوى» جديدة في سلسلة مرافعاتها ضد السلطة، وذلك ضمن سياق نهجها لعرقلة المفاوضات أو تعجيز شروطها. فإلى أشهر خلت، رفعت إسرائيل شعار ضرورة الاعتراف بها دولةً لليهود كي يكون ممكناً الحديث مع الفلسطينيين عن السلام. والآن، تخوض تل أبيب حملة تحريض مبرمجة، على مستوى عالمي، هدفها محاصرة رام الله في ملف مخصصات الأسرى وعوائل الشهداء، على أساس أن ذلك صورة من صور التحريض وتمويل الإرهاب، «فلا يمكن دفع السلام قدماً وتمويل الإرهاب في الوقت نفسه»، كما قال ترامب بلسان حال بنيامين نتنياهو.

مبررات السلطة لدفع رواتب الأسرى والشهداء تحوّلت إلى «وظيفية وإنسانية»

حملة إسرائيل سجلت حتى الآن إنجازات مهمة، منها إعلان الأمم المتحدة وقفها دعم «مركز الشهيدة دلال المغربي» في نابلس (مؤسسة اجتماعية تعنى بشؤون المرأة وأنشطتها) بسبب إطلاق اسم الشهيدة عليه. كذلك فعلت النرويج التي طلبت من السلطة (بتحريض إسرائيلي مباشر) نزع شعار خارجيتها عن مبنى المركز وإعادة التمويل الذي كانت قد تبرّعت به لإنشاء المركز للسبب نفسه. الدنمارك أعلنت بدورها أنها تدرس وقف تمويل جمعيات فلسطينية بحجة أنها «تمارس التحريض ضد إسرائيل وتشجع مقاطعها وفرض العقوبات عليها». وطبعاً، لا يغيب الكونغرس الأميركي عن ركبٍ كهذا، حيث يتبلور منذ أشهر مشروع قانون يدعو إلى وقف المساعدات المالية الأميركية للسلطة، في حال واصلت الأخيرة تحويل مدفوعات لأفراد أدينوا بتنفيذ عمليات «إرهابية» ضد إسرائيل، وكذلك لعائلاتهم.
وقبل أيام أقرّ الكنيست بالقراءة التمهيدية مشروع قانون يجيز للحكومة الإسرائيلية اقتطاع المبالغ التي تدفعها السلطة للأسرى وعوائل الشهداء من العائدات الضريبية التي تجبيها إسرائيل لمصلحة الخزينة الفلسطينية. والمحطة الفارقة في هذا السياق، كان التحريض الديماغوجي الذي مارسه نتنياهو غداة هجوم مانشستر الإرهابي (23 أيار الماضي) حين قال على مسمع ترامب: «لو كان منفّذ الهجوم فلسطينياً، وكان الضحايا يهوداً، لحصل على أموال من السلطة».
هذا كله مفهوم، بل متوقع. فـ«السلام يُصنعُ بين الأعداء»، كما تروي المقولة الممجوجة. يكفي ذلك، إذاً، لإعادة تأكيد أن إسرائيل، في حالتها الأصيلة، عدوٌ للشعب الفلسطيني، والعدو بطبيعته يعادي ويعتدي. غاية الأمر أن عداوة إسرائيل للفلسطينيين، في عصر المفاوضات، تكون أكثر خبثاً حين يحكم اليسار (المزعوم) تل أبيب، وتغدو أكثر لؤماً حين يحكمها اليمين. ولؤم اليمين مجبولٌ، كما هو معروف، بنوازعه الأيديولوجية العنصرية والإقصائية. وهذه تستولد المصلحة المُضمرة بإجهاض «العملية السياسية»، ما دام سقفها المطروح يتجاوز الحكم الذاتي المحدود للتجمعات السكانية الفلسطينية في الضفة المحتلة.
لكن المشكلة تكمن في المقاربة التي تنتهجها السلطة حيال استحقاقاتٍ من نوع الادعاءات الإسرائيلية بشأن ممارسة التحريض أو تمويل الإرهاب. والحديث هنا ليس عن الأدبيات المستخدمة في الخطاب الداخلي الفلسطيني، بل عن الموقف السياسي الذي تواجه به السلطة «اتهاماتٍ» كهذه أمام العالم (الغربي تحديداً). وهذا الموقف، وفق تقصٍّ موجز يمكن لأي مراقب أن يجريه على الإنترنت، يتلخص بابتلاع اللسان والصمت. لن يجد الباحث تصريحاً لمسؤول فلسطيني ينتمي إدارياً إلى أجهزة السلطة يقدم فيه موقفاً رسمياً ــ أياً تكن طبيعته ــ من هذا الأمر. كل المواقف التي سيعثر عليها المرء تعود إلى شخصيات فلسطينية ترتبط موقعيتها السياسية بتنظيماتٍ فلسطينية (حركة «فتح» على وجه الخصوص)، أو بأجهزة تابعة لـ«منظمة التحرير». يعني ذلك أن السلطة لا تتحمل المسؤولية السياسية عن هذه المواقف باعتبار أصحابها لا يشغلون مناصب فيها. لكن الطامة ليست هنا فقط، بل أيضاً، وربما أساساً، في مضمون هذه المواقف عندما يجري التعبير عنها أمام الجهات الدولية أو الغربية أو الإسرائيلية.
لنأخذ نموذجاً أخيراً. قبل أيام (13 حزيران) يصرّح وزير الخارجية الأميركي، ريك تيليرسون، بأن السلطة غيّرت سياستها بشأن دفع مخصصات الشهداء والأسرى، وهي «تنوي التوقف عن الدفع لمن أدين بأعمال قتل». تغيب رام الله رسمياً عن التعليق على هذا الأمر، ويتصدى رئيس «هيئة شؤون الأسرى والمحررين في منظمة التحرير»، عيسى قراقع، في جولة مقابلات، بعضها مع وسائل إعلام عربية وأخرى إسرائيلية وأجنبية. ينفي قراقع صحة ما قاله تيليرسون، ويؤكد، في مقابلة مع «هآرتس»، أن صرف الرواتب مستمر، مضيفاً أن «قراراً كهذاً (وقف الرواتب) لا يمكن تنفيذه، وتنفيذه يعني تصفية السلطة في نظر الشعب الفلسطيني». ويضيف: «كل عائلة فلسطينية ثانية هي عائلة شهيد أو أسير، ومن يعتقد أن بالإمكان تنفيذ هكذا قرار مخطئ كثيراً».

عندما يُسكت عن وصم المقاومة بالإرهاب، يسهل وصف احتلال الضفة بـ«تحريرها»

في مقابلات أخرى أجراها قراقع (وغيره من المسؤولين الفلسطينيين غير «السلطويين») مع وسائل إعلام عربية وفلسطينية، تراه يغرف من القاموس الوطني والثوري الفلسطيني في حديثه عن الأسرى والشهداء، باعتبارهم أبطالاً ومضحين ومقاتلين من أجل الحرية، وأن الالتزام المادي تجاههم هو التزام وطني وأخلاقي قبل أن يكون إنسانياً. لكن هذه اللغة تغيب تماماً عندما تكون المنصة إسرائيلية أو غربية، وتتحول مبررات الالتزام تجاه هذه الشريحة من الفلسطينيين إلى مبررات إنسانية ووظيفية: الوضع المعيشي الصعب، وضرورة احتوائهم وذويهم حتى لا ينفجر الشارع بغضبهم أو يتحولوا إلى «داعش»، وبقاء السلطة واستمراريتها... وما إلى ذلك.
ثمة حقيقة أشد صدماً: السلطة كانت قد تعرضت لضغوط من دول أوروبية قبل أعوام (دائماً بتحريض إسرائيلي) حول الموضوع نفسه. آنذاك، طلبت هذه الدول من السلطة تجنّب إحراجها في هذا الشأن، خصوصاً أن جزءاً مهماً من موازنة السلطة مصدره تبرعات هذه الدول. كان بإمكان رام الله آنذاك القول ــ مثلاً، ومن باب التماشي مع منطقها ــ إن الأموال التي تدفعها للأسرى وعوائل الشهداء تحديداً (يُقدر حجمها بـ5% من موازنة السلطة، و20% من مجمل المساعدات الخارجية، وفقاً للتقارير الإسرائيلية) يجري تمويلها من مصادر الدخل الأخرى التي تجبيها السلطة، كالضرائب أو غيرها.
لكن محمود عباس اجترح حلاً آخر أكثر تذاكياً، فقد أمر مطلع 2014، بوصفه رئيساً للسلطة، بإغلاق وزارة شؤون الأسرى والمحررين التي كان قد أنشأها الرئيس الراحل ياسر عرفات، عام 1998، وأصدر في العام نفسه أمراً آخر، بوصفه رئيساً لـ«اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير»، بإنشاء «هيئة» لشؤون الأسرى والمحررين تتبع إدارياً ومالياً للمنظمة، وتكون مسؤولة عن تكفل الأسرى والمحررين وعوائل الشهداء، مع فارق بسيط هو أنها تموّل عملياتها الوظيفية من «الصندوق الوطني الفلسطيني» الذي يتبع بدوره للمنظمة، مع العلم بأن مصدر تمويل هذا الصندوق وغيره من مؤسسات المنظمة هو خزينة السلطة لا غيرها.
باختصار، نحن أمام حالة تنصلية مريعة تحضر فيها كل عناصر التذبذب والتحايل، وتغيب عنها المبدئية والوضوح. السلطة، ومن يتحدث باسمها مواربة، تمارس هنا أشد حالات التنازل التي يمكن للمرء أن يتخيلها، وهو التنازل عن الرواية، ومن يتنازل عن الرواية يتنازل عن التاريخ والهوية. هي تتنكر للخلفية الوطنية الفدائية للأسرى والشهداء وللمكوّن الأشد حضوراً في شخصياتهم، وهو كونهم مقاومين، لمصلحة الإبقاء على تأمين رواتبهم ومخصصاتهم المالية لكن بثمن تقديمهم كحالات اجتماعية تنبغي رعايتها. السلطة الفلسطينية، بذلك، تقبل ضمناً، دون أن تصرّح، بالرواية الإسرائيلية والغربية (والسعودية، أخيراً) تجاه هذه الشريحة الأبرز من الشعب الفلسطيني، وهي رواية تشيطن هؤلاء وترى فيهم إرهابيين مكانُهم الطبيعي وراء القضبان، ويُحظر سياسياً إعالتُهم التي هي «تمويل للإرهاب».
يمكن المرء أن يفهم (بعضهم يمكن أن يتفهّم أيضاً) منطق السلطة البراغماتي الذي يقوم على أن هناك اختلالاً فاضحاً في موازين القوى (سياسياً وميدانياً) لمصلحة إسرائيل، ما يستوجب مجاراتها بغية تجنّب التصادم مع راعيتها العظمى: واشنطن. لكن هذا التكتيك يصحّ ــ لمن يقبله ــ في المسائل الإجرائية لا المبدئية، ويمكن أن يسري على الفروع لا على الأصول. التراجع والمناورة والانكفاء شيء، والتنازل والإقرار والتسليم شيء آخر. في الحالة الأولى، أنت تتحايل على الظروف، فتنحني أمام عاصفتها، أو ببساطة تُسلم بالعجز عن معاكستها راهناً. أما في الحالة الثانية، فأنت تعلن الانصياع لعدوك بشأن حقك وتتنكر لكل تاريخ نضالك ضده.
عندما تحجم رام الله عن الإعلان صراحة وبوضوح وبحسم أن شهيدةً كدلال المغربي أو مجاهداً كعبدالله البرغوثي أو مناضلاً كماهر يونس أو وليد دقة هم مقامون أبطال يستحقون كل مظاهر التكريم والمفاخرة، فإنها تمارس فعل الخيانة بحق قضيتها التي ناضل هؤلاء من أجلها، وتعلن الانسلاخ عن السياق النضالي الذي أسّس لنشأتها وأوصلها إلى حيّز الوجود. فهل كانت إسرائيل وغيرها ستجلس إلى طاولة التفاوض مع أيّ فلسطيني (يؤمن بالتفاوض) وتعطيه صفة الندية لها لولا مقاومة هؤلاء الشرفاء وتضحياتهم!؟ ثم، هل السلطة لا تدرك أن أهميتها الوجودية بالنسبة إلى إسرائيل تكمن بالدرجة الأولى في الدور الأمني الوقائي التي تلعبه ضد المقاومة الشعبية والمنظمة (إلى جانب الخدمات البلدية التي تؤمّنها لفلسطينيي الضفة، بديلاً من الإدارة المدنية للاحتلال).
وإذا سمحت السلطة لنفسها بأن تتنصل من إطلاق صفة المقاوم على الأسرى الحاليين في السجون (وفقاً لأي ذريعة كانت) وتحرّجت من مجابهة إسرائيل بهذه الحقيقة، فهل يعني ذلك سوى إقرارها الضمني بالمنطق الاتهامي الإسرائيلي لهم بالإرهاب، وهو منطق سينسحب في هذه الحالة على الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني، أو لنكن أكثر دقة: على نحو 750 ألف فلسطيني دخلوا السجون الإسرائيلية طوال عقود الاحتلال؟
«قبل خمسين عاماً، نحن حررنا يهودا والسامرة (الضفة) ولم نحتلها»، أعلن نتنياهو قبل أسبوعين بمناسبة الاحتفالات الإسرائيلية بالذكرى الخمسين لحرب 1967. تصريح نتنياهو، الذي لم يُواجَه بأي ردّ فعل فلسطيني أو عربي ولا دولي بالطبع، يُشكل حالة قطع حتى مع الأدبيات الإسرائيلية الرسمية التي كانت قائمة حتى الآن، والتي تقرّ بوضعية الاحتلال للضفة، بمعزل عن السلوك السياسي المنافق حيناً والمتكبّر أحياناً. ولا مبالغة في القول إن ما يجرّئ إسرائيل على تطور كهذا هو حالة النكوص التي تعتري الجانب الفلسطيني الرسمي، وهي حالة تجعل من موقف كهذا امتداداً طبيعياً للموقف من الأسرى والشهداء: فعندما تتحول المقاومة إلى إرهاب، والمقاومون إلى إرهابيين، ويكون مسموحاً التجرّؤ بالحديث عنهم بهذه اللغة وبنبرة اتهامية جازمة، سيتحول الاحتلال، وفقاً للمنطق نفسه، إلى فعل تحرير.





تكريس الإرهابي الإسرائيلي كنموذج!

بينما تمارس إسرائيل إرهابها السياسي والثقافي بحق الفلسطينيين، يأتي إصدار حكومتها (23 نيسان الماضي) قراراً بتخليد ذكرى مجرمٍ اسمه رحبعام زئيفي، بإقامة نصب تذكاري له في مستوطنة «بركان» في الضفة. هذا القرار، الذي رصد 4.9 ملايين شيكل لإجرائه، هو تنفيذ لقانون كان الكنيست قد أقرّه عام 2005 وعنوانه «قانون تخليد ذكرى رحبعام زئيفي».
ولمن لا يعلم أو نسي، زئيفي هذا هو صاحب أكثر السجلات دموية بحق الفلسطينيين والأسرى المصريين الذين أعدمهم بيديه بدم بارد. وهو الذي اعترف طيار مروحيته عندما كان قائداً عسكرياً لمنطقة الوسط في جيش الاحتلال بأنه كان يطير فوق عدد من القرى الفلسطينية في الضفة فيما كانت تتدلى من الطائرة جثة معلقة بحبل لفدائي فلسطيني تم قتله.
زئيفي قتلته مجموعة بطلة من «إرهابيي» الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 2001 ثأراً لاغتيال أمينها العام الشهيد أبو علي مصطفى.