خسر تنظيم «داعش» رمزه الأكبر: المسجد النوري الكبير. السيطرة التي حققتها القوات العراقية، أمس، تلقفها سريعاً رئيس الوزراء حيدر العبادي، مهنئاً الشعب بـ«استعادة السيطرة على المسجد التاريخي»، والذي ألقى منه زعيم تنظيم «داعش» أبو بكر البغدادي، خطبة إعلان «دولة الخلافة» عام 2014. حسم العبادي الموقف، معلناً «انتهاء دويلة الباطل الداعشية»، ومؤكّداً ــ في الوقت عينه ــ أن قواته ستبقى «تلاحق الدواعش بين قتلٍ، وأسرٍ، حتى آخر داعشي في العراق».
إعلان «النصر» لم يصدر بعد. ما جرى أمس ليس إلا «تحضيراتٍ» تنتظر استعادة الحيّين المتبقيين، ليخرج العبادي بعد ذلك بخطاب يرجّحُ أن يكون قريباً جداً، وفق معلومات «الأخبار».
هذا الخطاب سيحمل أكثر من رسالة، إذ سيكرّس الرجل نفسه كـ«مخلّصٍ للعراق من براثن داعش»، وكـ«رجل كل المراحل» (في الحرب أو في السلم)، والمهتم بالتعاون مع دول الجوار والعمل على إخراج العراق من أي اصطفاف إقليمي. فـ«سياسة النأي بالنفس هي المُنجية»، أما السياسة السابقة و«دخول المعارك» ــ بتعبير العبادي نفسه ــ فهي التي أوصلت العراق إلى ما وصل إليه.
في المحصّلة، لم يبقَ للمسلحين، بعد سبعة أشهر من القتال المتواصل، سوى حيّين من أحياء المدينة القديمة، لا تتجاوز مساحتهما الواحد في المئة من إجمالي مساحة الموصل. هناك تخوض القوات المتقدّمة حرب أزقّة حيث تواجه تحصيناتٍ معقدة، إلا أنها بدأت بالتفكّك بعدما «تهاوت إرادة القتال لدى مسلحي التنظيم، وإطباق الحصار عليهم».

لم يبقَ للمسلحين سوى حيّين من أحياء المدينة القديمة

ومع توغّل القوات أكثر إلى أحياء «عاصمة الشمال»، برز الحديث عن اتخاذ المسلحين للمدنيين كدروعٍ بشرية، الأمر الذي أدّى إلى عرقلة التقدّم أكثر من مرّة ــ في القاطعين الشرقي والغربي، وعزوف قيادة «العمليات المشتركة» عن خططٍ رسمتها مسبقاً، فأعادت صياغتها مجدّداً، بهدف حماية العُزّل، الذين حُبسوا في منازلهم لأيّامٍ عدّة، بعدما اتخذها المسلحون كمتاريس لهم.
لكن حال بعض المدنيين لا تقتصر عند حدود «الضحيّة»، بل تصل أيضاً إلى كونهم «جلّادين»، بوصف البعض. غير أن جذر القضية الأساس، مردّه ــ وفق التحقيقات ــ إلى بعض سياسات الحكومة السابقة (برئاسة نوري المالكي)، وإلى الفساد المستشري في المؤسسة العسكرية وقادتها أصحاب الولاءات المتعددة، إضافةً إلى دور المحافظ السابق أثيل النجيفي ورئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني في تغذية تلك التيّارات وتقديم الدعم المباشر وغير المباشر لها، من أجل إحكام السيطرة على المدينة.
هذه العوامل التي أسهمت في إنماء الغضب على بغداد، عزّزت ــ عند البعض ــ الرغبة في البحث عن متنفس آخر، ما أسفر عن خلق مجتمعٍ غير قادر على لفظ «داعش» بسبب خصومته لحكّام الدولة المركزية وخوفه من بطش التنظيم الإرهابي.
وأمام مشهد اندثار التنظيم، فإن السؤال: «من سيرث الموصل بعد موتها؟». المعلومات تشير إلى أن حراكاً يقوده المحافظ السابق أثيل النجيفي (موجود حالياً في أربيل)، يستند إلى مناصريه في «حرس نينوى». إذ يعمل، وبدعمٍ تركي، على جذب الشباب الموصلي، وتأطيرهم في نسقٍ حزبي، مقدّماً لهم دعماً مغرياً، بهدف ضمانهم إلى جانبه، في مسعى منه لـ«العودة إلى المدينة» وكسب حاضنةٍ شعبية، تخوّله لمواجهة الحكومة المركزية والأجهزة الأمنية، بعدما صدر بحقّه حكم اعتقال وملاحقة.

«تشابك الأذرع»

قيل الكثير عن مشاركة قوات «الحشد الشعبي» في معارك الموصل. يمكن توصيف ما حدث أنه «تشابك أذرع»، أو تنسيقٌ ارتقى إلى مستوى «الأخذ بالمشورة والاستعانة»، في بعض الأحيان. قيادة «الحشد» كانت حاضرة إلى جانب قيادة العمليات (بقيادة الفريق الركن عبد الأمير يار الله) في التخطيط وتقدير الموقف العملياتي، فيما بادلتها الأخيرة بالمتابعة وتقديم المعونات اللازمة في عمليات غرب الموصل.
وبرز أيضاً، تبادل الطرفين خبراتهم في استيعاب هجمات التنظيم، وخصوصاً في كيفية «مواجهة سلاح المفخخات»، بعدما «أسس الحشد منظومة دفاعية رادعة للسيارات المفخخة»، ما أسهم في انحسار الخسائر الناتجة من العمليات الانتحارية.
حدود «التشابك» امتدت إلى الجانب الإنساني، بإطلاق أكثر من حملة دعمٍ للنازحين، في المدينة وفي المخيمات الواقعة على أطرافها، بتوجيه مباشر من المرجعية الدينية العليا (آية الله علي السيستاني).