بالمعنى الرمزي، وبمعزل عن استعجال رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، إعلان نهاية «داعش» لأسباب سياسية داخلية، فإن سقوط جامع النوري بيد القوات العراقية يُعدُّ المحطة الأبرز في سياق الحرب على التنظيم الإرهابي، ربطاً بكونه المكان الذي أعلنت منه «دولة الخلافة». لكن بين تحرير الموصل (علماً بأنه لا تزال هناك أحياء تحت سيطرة التنظيم) ونهاية «دويلة داعش» ثمة مسافة سياسية وميدانية لا يبدو أن اجتيازها سيكون بالسرعة أو السهولة التي أوحت بها التصريحات العراقية الرسمية أمس.
«داعش الموصل» سقطت، كما سقطت من قبلها «داعش الفلوجة» والرمادي وبيجي وتكريت وجرف الصخر وغيرها، لكن «داعش» قبل الجغرافيا وبعدها هي مشروع، في نظر أتباعها ورعاتها على حد سواء. ويمكن القول إنه لا يوجد أي مؤشر على التسليم أو التخلي أو التنازل لدى أتباع هذا المشروع عنه، وهو ما تشهد عليه معارك الموصل نفسها التي استمرت نحو ستة أشهر في ظل حصار شبه كامل للمدينة وقطع خطوط إمدادها. وقياساً على هذه الوتيرة، فإن بالإمكان الافتراض أن ما بقي من معارك لاستعادة المناطق التي لا تزال تحت السيطرة «الداعشية» في العراق لن تكون قريبة النهاية.

إنهاء وجود «داعش» في العراق لن يكون قريب النهاية

والحديث هنا عن مناطق متعددة ومتباعدة تبدأ بتلعفر ولا تنتهي بصحراءيْ نينوى والأنبار، مروراً بالحويجة والشرقاط والشريط العمراني الممتد بين حديثة والقائم على الحدود العراقية ــ السورية. وإذا كان من المرجح أن تسهم النتيجة المحسومة لمعركة الموصل في تسارع الهزائم «الداعشية» في هذه المناطق، إلا أن المؤكد، في المقابل، أن كل منطقة منها ستشكل استحقاقاً عملياتياً قائماً بذاته يتطلب حشد الجهد العسكري لمعالجته بالتوالي، الأمر الذي يعني أن الميدان العراقي سيكون مع عدد من المواعيد المتجددة لمعارك أخرى قادمة، على غرار المعارك السابقة. ويبدو أن أول هذه المواعيد سيكون في مدينة تلعفر نظراً إلى قربها الجغرافي من الموصل ووجودها تحت الحصار منذ فترة طويلة، ما أسهم في ضعف العدو فيها. أما الحويجة وكذلك منطقة الحدود مع سوريا، بما فيها منطقة القائم، فدونهما حتى الآن حسابات سياسية أكثر تعقيداً تتصل عموماً بوضعية ما بعد التحرير.
فالحويجة قضاء نفطي يقع جنوب غرب كركوك، المحافظة التي وضع الأكراد يدهم عليها بقوة الأمر الواقع، معلنين ضمها الفعلي إلى إقليمهم. لذلك، من الطبيعي أن تتريث الحكومة العراقية في الشروع بمعركة تحرير هذا القضاء طالما لم تضمن ما يثبّت سيطرتها عليه في مرحلة مع بعد التحرير، كمدخلٍ لإحداث ربط نزاع ميداني مع الأكراد حول السيطرة على عموم المحافظة. أما منطقة القائم وعموم الصحراء المتاخمة للحدود مع سوريا، فالواضح أنها باتت تمثل استحقاقاً إقليمياً يتعدى في أبعاده المعركة المباشرة مع «داعش» إلى ما هو في صلب الحرب الدائرة بين محور المقاومة من جهة والمحور الأميركي ــ الإسرائيلي ــ الخليجي من جهة أخرى. وهنا يصل الحديث إلى رعاة المشروع «الداعشي» الذين برغم إظهارهم إشارات مبدئية بالتخلي عنه، إلا أنهم لا يزالون يمارسون أشكالاً مختلفة من العرقلة لضبط إيقاع الإجهاز على هذا المشروع بما يتساوق مع ضابطتين: الأولى، أن لا يكون قصب السبق في هذا الإجهاز من نصيب أطراف المحور الآخر، بما يكرس انتصاراً استراتيجياً لهم ستلغي مفاعيله التوازنات التي كانت قائمة قبل مرحلة «داعش». والضابطة الثانية، وهي تتصل عضوياً بالأولى، تتعلق ببلورة المشروع البديل الذي يراد له أن يحل مكان «داعش» لجهة المراهنة عليه في تنفيذ الأدوار الوظيفية التي أنيطت بالتنظيم الإرهابي على صعيد مواجهة محور المقاومة. حتى الآن، يمكن القول إن هذا البديل لم يجهز، برغم العمل الحثيث على تنضيجه.