في كتابه «دعوة المقاومة الإسلامية العالمية»، يتحدث المنظّر الجهادي الشهير أبو مصعب السوري (مصطفى ست مريم) عن ولادة «الحزب الإسلامي التركستاني» الذي كان شاهداً على نشأته وصديقاً لمؤسسه (حسن مخدوم الشهير بأبو محمد التركستاني). يشير أبو مصعب إلى نقطة غاية في الأهميّة، مفادها أنّ «أبو محمد التركستاني كان يعوّل على دعمٍ من الولايات المتحدة تقدمه لحركته في إطار برنامج سري أقرّه الكونغرس عام 1995 لتفكيك الصين باستخدام النزعات العرقيّة والدينيّة فيها».
ورغم أن الولايات المتحدة صنّفت لاحقاً «التركستاني» من بين التنظيمات الإرهابيّة (عام 2009)، غيرَ أنّ هذا التصنيف لا يبدو حاجزاً حقيقيّاً يحول بينها وبين دعمه، سواء عبر إحياء البرنامج المذكور، أو من خلال قنوات أخرى «وسيطة». وتؤكّد مصادر تركيّة معارضة لـ«الأخبار» تحصيلها معلومات تفيد بأنّ «ملف الأويغور جرت مناقشته بين أنقرة وواشنطن عبر القنوات الأمنيّة، من بين ملفات أخرى متشعبة». وخلافاً لما توحي به المجريات السياسيّة المُعلنة، فإنّ التنسيق الأمني بين أنقرة وواشنطن لم يتأثّر على الإطلاق في عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب. وعلى العكس من ذلك، فقد قرّرت واشنطن في أيار الماضي «توسيع التعاون الاستخباري مع تركيا» وفقاً لصحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية (راجع «الأخبار»، العدد 3202).

مسار تصاعدي

يُعد «الحزب الإسلامي التركستاني» اليوم أقوى واجهة «جهاديّة» تتبنّى قضيّة «إقليم تركستان» بعدما تصدرت الواجهة سابقاً «حركة تركستان الشرقيّة». والإقليم المذكور هو إقليم «شينغ يانغ» الصيني، وسكّانه من أقليّة الأويغور التي تدين بالإسلام. وينادي «الحزب التركستاني» باستقلال الإقليم عن الصين ويعتبره قضيّته المركزيّة. منذ ظهوره في سوريا، لفت «التركستاني» الأنظار بسبب تمتّعه بمزايا كثيرة تمنحه اختلافاً عن سواه من الحركات «الجهاديّة» المنخرطة في الحرب، ويأتي التنظيم العالي على رأس تلك المزايا واحداةً من أبرز المجموعات التي نُظّمت بطريقة تضمن لها استدامةً ليست الحرب السوريّة غايةً لها، بل وسيلة. وإذا كانت أفغانستان قد شهدت ولادة «الحركة الجهاديّة التركستانيّة» قبل عقود، فإنّ سوريا كانت مكاناً لهيكلة هذه الحركة، وتأطيرها، ومنح منتسبيها مسرحاً ملائماً للتدريب في معسكرات متنوّعة الاختصاصات، علاوةً على توفير بيئة قتاليّة حقيقيّة يخوض فيها المسلّحون حروباً تكسبهم خبراتٍ عاليّة في التعامل مع أحدث صنوف الأسلحة والتكتيكات الهجوميّة المختلفة («الأخبار»، العدد 2593). وقد رُصد في خلال سنوات الحرب تصاعدٌ في نوعيّة الأسلحة التي وصلت إلى أيدي مقاتلي الأويغور، وبينما كان السلاح الأقوى في يد «الحزب الإسلامي» خلال معارك مطار أبو الضهور مثلاً (2015) هو التفجيرات الانتحارية، فقد ظهرت في حوزته لاحقاً أسلحة نوعيّة مثل صواريخ ميلان الفرنسيّة وتاو الأميركية.

«كتيبة أشبال تركستان»

في خلال الأشهر الثمانية الأخيرة، لاحظت مصادر «جهاديّة» زيادة في استحداث معسكرات تدريب الأطفال «الجهاديين» الأويغور تحت اسم «معسكرات أشبال تركستان الإسلاميّة». عرّاب المعسكرات هو الشيخ السلفي السعودي عبدالله المحيسني الذي يتنقّل بحرية بين المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة السورية وتركيا. ويأتي هذا النشاط بوصفه جزءاً من سلسلة معسكرات مماثلة سبق للمحيسني أن أنشأها، لكن الجديد هو تخصيصها لتدريب أطفال عرق بعينه. تتوزّع معسكرات «أشبال تركستان» بين جسر الشغور، والزنبقي، وإحسم، وتستقطب أطفال العائلات الأويغورية المنتشرة هناك من عمر 8 سنوات وما فوق. وينقسم الإعداد الذي يخضع له هؤلاء إلى قسمين: شرعي، وعسكري. ويقوم الإعداد الشرعي على غرس فكرة «الجهاد» في نفوس الأطفال، وتنمية الحس العقائدي لديهم يشرف عليها المحيسني شخصياً بمساعدة «دعاة» أويغور يتقنون اللغة العربية.

أنشأت أجهزة الاستخبارات التركيّة «مراكز استقطاب وإعادة تأهيل للجهاديين»

كما يهتم «الإعداد الشرعي» بإحياء الشعور العرقي لدى الأطفال عبر إفراد محاضرات خاصة لقضية «تركستان الإسلاميّة» وخطط تحريرها من الصين. ولا تستنثي هذه الدورات الفتيات، بل تخصص لهنّ حلقات منفصلة عن الذكور، وتوفر لهنّ علاوة على الإعداد الشرعي دورات تعليم للسلاح الفردي الخفيف. أما الذكور، فيخضعون لدوراتٍ قتاليّة بمستويات متقدمة تبعاً لأعمارهم على مختلف فنون القتال وصنوف الأسلحة. وخلال شهر آذار الماضي، تمّ «تخريج» دفعة من الفتيان، واستحدثت لهم كتيبة حملت اسم «كتيبة أشبال تركستان الإسلاميّة» بإشراف عسكري مباشر من «الحزب الإسلامي التركستاني». وحتى الآن، لم يُسجّل أي نشاط قتالي لهذه الكتيبة التي يُقدّر عدد أفرادها بـ 400 طفل تراوح أعمارهم بين 10 و14 عاماً.

من «داعش» إلى «الحزب»

عكس معظم المجموعات المسلّحة، سارع «داعش» إلى استقطاب المقاتلين الأويغور. وتجاوز عقبة اللغة بالاستفادة من وجود عدد كبير من القياديين التركمان في صفوفه. كانت الدعاية التي أتقن «داعش» ترويجها بخصوص «عولمة الجهاد» عاملاً مؤثّراً في نجاحه باستقطاب المقاتلين غير العرب، ومن بينهم الأويغور. وتقوم هذه الدعاية على فكرة أنّ «الجهاد واجب على كل مسلم، من دون أي اعتبار للقوميّة». وعزّز وجود بعض القياديين من غير العرب في صفوف التنظيم من فعالية هذه الفكرة. كذلك، لعبت سيطرة التنظيم على مناطق واسعة من الحدود السورية التركيّة دوراً فاعلاً في استقطابه للمقاتلين الأويغور الذين وفد معظمهم عبر الأراضي التركيّة، وتحوّلت مدينة تل أبيض (ريف الرقة الشمالي) خلال عام 2014 إلى نقطة تجمّع أولى لـ«أويغور داعش». أقام التنظيم في المدينة معسكرات خاصّة بالأويغور كرّر فيها تجربة أفغانستان، حيث ركّز على «الجهاديين الفتيان»، قبل أن يوزّع الدفعات التي تُنهي تدريبها على «الولايات» التابعة له في كل من سوريا والعراق. لكنّ العام الأخير شهد حالات تسرّب متتالية للأويغور من صفوف «داعش» والتحاقهم بـ«التركستاني»، بالتناسب مع ازدياد وتيرة الحرب على «داعش». وعلى وقع الانكسارات المتتالية للتنظيم في كل من العراق وسوريا، قرّر كثير من الجهاديين الأجانب أنفسهم مضطرّين إلى البحث عن آفاق أخرى لـ«جهادهم». وفيما اختارت نسبةٌ قليلةٌ من هؤلاء الانسحاب من المشهد الجهادي مؤقّتاً، مال معظمهم إلى التوجّه نحو تنظيمات بديلة لا تعاني ما يعانيه «داعش». بدأت هذه الحركة عشوائيّاً أوّل الأمر، لكنّ أجهزة الاستخبارات الداعمة لأنشطة الجهاديين سرعان ما تنبّهت إليها، وبدأت في توجيهها واستغلالها. وتأتي على رأس تلك الأجهزة الاستخبارات التركيّة التي أنشأت «مراكز استقطاب وإعادة تأهيل» داخل الأراضي السوريّة وفي بعض المدن الحدوديّة التركيّة. كانت الاستخبارات الأميركيّة بدورها قد أنشأت برنامجاً سرّياً متفرّعاً عن برامج «دعم المعارضة المعتدلة» مهمّته الأساسيّة العمل على تشجيع «الجهاديين» المنضوين في صفوف «داعش» على الانشقاق عن التنظيم بصورة منظّمة تضمن استقطاب المنشقّين، لا عشوائيّة تؤدّي إلى تسربهم في اتجاهات شتّى. وُضع البرنامج قيد التنفيذ في مطلع عام 2016 بتنسيق كامل بين الاستخبارات الأميركيّة ونظيرتها التركيّة، واختيرت مجموعات عدّة من «المعارضة المفحوصة» للقيام بمحاولات الاستقطاب مثل: «فرقة الحمزة»، «فيلق الشام» و«جبهة الشام» («الأخبار»، العدد 3075). عملت الاستخبارات التركيّة على تجيير هذا البرنامج لخدمة مشروعها في دعم «الحزب الإسلامي التركستاني» الذي تتبناه بشكل كامل. حظي الأويغور المنشقون عن «داعش» بأولوية لدى أنقرة، بحيث يتم فرز هؤلاء عن سواهم من المنشقيّن، وإخضاعهم لجلسات طويلة تعمل على تنمية الشعور القومي لديهم، وتركّز على ضرورة «تجيير جهادهم لخدمة قضيّة تركستان المسلمة، بدلاً من خدمة أجندة تنظيم مثل داعش يتعامل معهم كأدوات فحسب، ولا يوليهم حتى مناصب قياديّة». ووفقاً لتقديرات مصادر سوريّة من داخل المجموعات المسلّحة التي كُلفت بمهمات الاستقطاب، فإن عدد الأويغور الذين انشقّوا عن «داعش» بلغ منذ منتصف العام الماضي حتى شباط قرابة 400 منشق، وجدوا طريقهم إلى صفوف «الحزب الإسلامي». كان انسحاب تنظيم «داعش» من مدينة الباب السوريّة (شباط 2017) محطّة مهمّة ولافتة في سجل «الحزب الإسلامي التركستاني»، فقد أفلح الأخير في تسهيل عقد صفقة بين «درع الفرات» (ومن خلفه أنقرة) وبين «داعش» نصّت بنودها على انسحاب مقاتلي «داعش» الأجانب من الباب، ومنح مقاتليه من أبناء المنطقة أماناً لأنفسهم وعائلاتهم وممتلكاتهم، كما نصّت على بند خاص بمقاتلي «داعش» من الأويغور الموجودين في منطقة الباب، يتيح لهم الاختيار بين الانسحاب مع أقرانهم، أو الانتقال إلى المراكز المؤقتة تمهيداً لانضوائهم في صفوف «الحزب الإسلامي». ووفقاً لمصادر سوريّة من فصائل «درع الفرات»، فإن 72 مقاتلاً أويغوريّاً كانوا في صفوف «داعش» في الباب اختاروا الانتقال إلى المراكز المؤقتة، في مقابل 11 مقاتلاً فضلوا البقاء في صفوف «داعش» والانسحاب معه نحو ريف حلب الجنوبي الشرقي، ومنه نحو الطبقة ثم الرقّة. أما الأويغور الذين لم ينشقوا عن «داعش» فقد انقسموا إلى قسمين: قسم لا يزال حاضراً في صفوف التنظيم ومعاركه بين سوريا والعراق، ويتمركز جزء كبير من هؤلاء في محافظة دير الزور، وتحديداً في مدينة البوكمال الحدوديّة. بينما وجد القسم الآخر طرقاً للعودة إلى جبال أفغانستان بحثاً عن ملاذٍ آمنٍ في كنف «حركة طالبان» التي وُلدت الحركة «الجهادية» التركستانيّة بفضلها.

أويغور «القاعدة»

ثمّة مئات من المقاتلين الأويغور ينضوون في صفوف «القاعدة». بعضهم يقاتل تحت راية «جبهة النصرة» بشكل مباشر، وبعضهم يرتبط بها من خلال «لواء المهاجرين». وهو مجموعة يدين مقاتلوها بالبيعة لزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، وتعمل تحت إشراف «النصرة»، ويضم إضافة إلى التركستان مقاتلين طاجيك وعدداً قليلاً من القوقازيين. يتمركز هذا «اللواء» في جبل الزاوية في محافظة إدلب وتسكن عائلات مقاتليه في بعض قرى المنطقة، بينما يرابط المقاتلون في النقاط القتالية، ويحصلون على إجازات لزيارة عائلاتهم دوريّاً، بواقع زيارة واحدة شهريّاً. ومن الملاحظ أنّ القرى التي تسكنها عائلات أويغور «النصرة» هي ذاتها التي تسكنها عائلات «الحزب الإسلامي التركستاني». وبشكل عام، فإنّ العلاقة بين أويغور القاعدة وأويغور الحزب هي علاقة ممتازة. ولا يعدو انقسام الأويغور بين الطرفين كونه مظهراً «تنظيمياً» بحتاً، وسببه أن أويغور القاعدة كانوا قد وفدوا إلى سوريا منذ بدايات الظهور «الجهادي» فيها وفي وقت سابق لظهور «الحزب الإسلامي التركستاني». وثمة ملاحظة جديرة بالانتباه، مفادها أنّ جزءاً كبيراً من أويغور القاعدة ليسوا متزوجين، أو تزوجوا بفتيات من غير جلدتهم (سوريات، أفغانيات). وتجدر الإشارة إلى أن المقاتلين الأويغور، سواء المنضوين في صفوف «لواء المهاجرين/ النصرة» أو صفوف «الحزب الإسلامي» يحظون بثقة وتقدير كبيرين لدى عدد من أبرز مرجعيّات القاعدة مثل الأردني – الفلسطيني أبو محمد المقدسي (عصام طاهر البرقاوي)، والقيادي أبو الخير المصري (عبدالله رجب عبد الرحمن) الذي كان حتى مقتله نهاية شباط الماضي الرجل الثاني لتنظيم «القاعدة» في سوريا، وقد خصّه «الحزب الإسلامي» ببيان ينعاه فيه ويعزي باستشهاده. خلافاً لما يظنّه البعض، لا يرتبط «التركستاني» ببيعة لتنظيم «القاعدة»، لكنّ العلاقة بين الطرفين قويّة ووطيدة وهي علاقة قائمة على مبدأ «أخوّة الجهاد»، وعلى نحو مماثل توطدت العلاقة بين «التركستاني» و«جبهة النصرة». من جهة أخرى، يدين «التركستاني» ببيعة لحركة «طالبان» تعود إلى زمن وفود مؤسس «التركستاني» على الملا محمد عمر في أفغانستان (أواخر تسعينيات القرن الماضي).




«تمدّد» في إدلب

بدأ «الحزب الإسلامي التركستاني» حصاد ثمار التوتر الذي ساد مناطق عدة من ريف إدلب في خلال الأيام الأخيرة. وعلى الرغم من أن «التركستاني» لم يكن طرفاً في اندلاع شرارة التوتر التي اقتصرت أول الأمر على مناوشات بين «حركة أحرار الشام» و«هيئة تحرير الشام/ النصرة»، غير أنّ تطورات الأمور تبدو ذاهبة نحو مزيد من «التمدد» لمناطق سيطرة «التركستاني». وأفادت مصادر محليّة عن دخول الأخير إلى مدينة جسر الشغور (ريف إدلب الغربي)، علاوة على أنباء عن تسييره أرتالاً نحو مدينة أريحا. وكانت مدينة جسر الشغور قد شهدت توتراً بين كل من «التركستاني» و«حركة أحرار الشام» بعد اعتقال الأخيرة عناصر من «الحزب». ووصفت مصادر «جهادية» التطورات الجارية بأنها عملية تبادل مواقع بين «التركستاني» و«النصرة» تهدف إلى منح الأخيرة فرصة للتفرغ لجولة جديدة من فصول سباق النفوذ المستمر بينها وبين «أحرار الشام».