تأكد متابعو مسار الأزمة الخليجية ــ القطرية أن هذه الأزمة ليست محض إعلامية، وأنها حقيقة وفعلية عندما بدأ الريال القطري الهبوط أمام الدولار الأميركي (بالغاً معدلاً تراجعياً يقارب 5 نقاط) لتكون هذه هي المرة الأولى له منذ 12 عاماً.
فالاقتصاد لا يكذب، وهو المؤشر الفعلي والحقيقي الذي يشير إلى مدى عمق الأزمات والخلافات السياسية واتساعها، وواقع المؤشرات الاقتصادية القطرية اليوم يوضح أن الأزمة السياسية الحالية ليست غمامة صيف عابرة، لأن الأمور قد بلغت مستويات حرجة وحساسة.
لقد تراجع الريال القطري إلى أدنى مستوى له خلال 12 عاماً مقابل الدولار في كل من السوقين الآجلة والفورية للعملات العالمية، وبدأ المؤشر بالانحدار منذ عشية اندلاع الأزمة السياسية والديبلوماسية مع «الرباعية العربية» في 5 حزيران الماضي. لقد كانت التوقعات سلبية حول مستقبل الاقتصاد القطري، خاصة في ظل الحصار الجمركي الخليجي الذي أشاع القلق في الأوساط المالية والاستثمارية عموماً، فبلغ سعر شراء الدولار 3.6517 وهو أعلى مستوى له منذ تموز 2005 وفقاً لبيانات «تومسون رويترز» التي ترصد تحركات العملات العالمية، علما بأن مصرف قطر المركزي يبذل جهوداً كبيرة لضبط سعر الريال عند 3.64 ومنع أي تذبذبات جديدة، مستفيداً من حقيقة وجود احتياطات أجنبية ضخمة تعطيه قدرات تحرك واسعة.
وترافق ذلك مع هبوط في سعر الفائدة المعروض بين بنوك قطر بلغ نحو 1.8%، ما يشير حتماًَ إلى اتجاه «المركزي القطري» نحو ضخ سيولة إضافية جديدة قريباً في محاولة لتلافي هبوطات جديدة، وهذا فعلاً ما لمّح إليه مسؤول المصرف لوكالة «رويترز» في تصريحه الأخير.
كذلك، ذكرت صحيفة «الصانداي تايمز» البريطانية في تقرير لها الصعوبات التي يعانيها مراسلوها في الحصول على العملات الأجنبية داخل البلاد، ما يعني وجود مشكلة سيولة فعلية استجدت إثر الأزمة السياسية الأخيرة. ومن اللافت شدة حالة القلق التي تسود القطاع المالي القطري حالياً، إذ وجه المصرف المركزي طلب تقديم معلومات تفصيلية يومية من جميع البنوك التجارية العاملة عند السحوبات وعند تداولات النقد الأجنبي الجارية في البلاد، وهو بذلك يبذل جهوداً كبيرة لمنع تحول مشكلات نقص السيولة الحالية وخفوضات السداد والتمويل إلى حالة العجز الذي سيعني انهياراً مالياً كاملاً لا تزال الدوحة تعمل على تفاديه.
لقد طاولت الأزمة السياسية والديبلوماسية الحالية قطاعات اقتصادية قطرية واسعة، فالمنع الذي فرضته الدول العربية الأربع المقاطعة، الذي سبّب إغلاق المنافذ البحرية والجوية أمام الحركة القادمة والمغادرة إلى قطر، أدى إلى الإضرار برافد اقتصادي أساسي، وأجبر الخطوط القطرية على تسيير رحلات أطول خاصة إلى أفريقيا، ما يقوّض نموذج عملها المعتمد على مسافري الترانزيت.
ولعل الأزمة الكبرى بالنسبة إلى الاقتصاد القطري هي حالة الشلل الكاملة التي أصابت التجارة البرية القطرية لاقتصار حدودها البرية على السعودية، علماً بأن المملكة السعودية والإمارات من أهم الشركاء التجاريين لقطر، خاصة في مجال تجارة الغذاء. فوفق بيانات 2015، تأتي الدولتان في المرتبة الأولى والثانية في الدول المصدرة للمواد الغذائية إلى قطر، بإجمالي يبلغ 310 ملايين دولار، متضمناً ذلك تجارة المواشي والخضراوات والمواد الاستهلاكية، وحتى الطبية، كمجالات تلعب فيها كل من السعودية والإمارات دور بوابة توريد رئيسية إلى الداخل القطري.

صارت قطر مهددة بالتخلي عن جميع مكاسبها خلال العقدين الماضيين

كذلك إن التبادل التجاري القطري مع الجيران الخليجيين يشمل مجالات استراتيجية أخرى حاسمة كالوقود المكرر، إذ يبلغ حجم التجارة مع كل من الجارين البحريني والإماراتي نحو 200 مليون دولار. وكذلك الأمر في مجال قطاع المعادن، إذ يفوق إجمالي التجارة السنوي مع الإمارات نصف مليار دولار. وهناك بعض التقييمات الأولية عن أن الخسائر الاقتصادية والتجارية القطرية قد بلغت إلى الآن نحو 100 مليار دولار.
القرار الجديد، الذي اتخذته السعودية ضد قطر بضرورة تشديد الحصار الجمركي وتعميمه على جميع المنافذ البرية والاقتصادية، يوضح أن المسألة تتخذ اتجاهاً متصاعداً، وأن الأيام المقبلة ستشهد تردياً في وضع الاقتصاد القطري، فقد طاول القرار الجديد البضائع والركاب والقوافل التجارية والترانزيت، ما أدى إلى حدوث شلل في مئات الشركات التجارية العاملة في الداخل القطري. ومن المؤكد أن السعودية ودول المقاطعة العربية تدرك حجم النتائج وفعالية سلاح الاقتصاد لإرغام الدوحة على الرضوخ لقائمة المطالب السياسية والعودة إلى البيت الخليجي.
مشكلة قطر مع الحصار السعودي ــ الخليجي ليست فقط في أن نحو 10.5 مليارات دولار هو حجم التبادل التجاري بينهما، الذي يشكل نحو ثلث سجل التبادل التجاري القطري الكلي، بل في أن غالبية واردات قطر من دول الخليج هي من البضائع المصنعة للمستهلك النهائي (نحو 90% من إجمالي الواردات)، ما يعني أن البلاد لا تملك أي مستوى من مستويات الاكتفاء الذاتي، وأن تصعيد الحصار إلى مستويات أعلى واستدامته أكثر قد يسبب نتائج كارثية على مستوى الإمارة ويهدد وجودها كدولة. وقطر التي كانت تعتمد مشروعات وطموحات اقتصادية كبرى (ليس آخرها مشروع استضافتها مونديال 2022) صارت اليوم مهددة بالتخلي عن جميع مكاسبها التي بنتها خلال العقدين الماضيين، إذ إن شركات التشييد والبناء العاملة في الداخل القطري تعمل كمشاريع استثمارية ضمن نطاق مجلس التعاون الخليجي وليست على مستوى قطر وحدها.
ويبلغ عدد الشركات السعودية وحدها على سبيل المثال في السوق القطرية نحو 315 شركة بملكية كاملة ورؤوس أموال تبلغ نحو 1.234 مليار دولار، بالإضافة إلى نحو 303 شركات مشتركة برأسمال سعودي قطري يبلغ مبلغاً مناظراً، أي نحو 1.252 مليار، وذلك بحسب بيانات السجل التجاري القطري وإحصاءاته. غالبية هذه الشركات تعمل في مجال المقاولات والبناء والتعهدات والتجارة العامة والاستيراد، وكل ذلك يعني أنه ببساطة لا وجود للاقتصاد القطري دون الإسهام الاقتصادي الخليجي عموماً والسعودي خصوصاً.
إذا لم تحلّ الأزمة بين دول الخليج وقطر قريباً، أو على الأقل إذا لم توجَد تخريجات وتسويات اقتصادية لها على المدى المنظور، فلا بد أننا سنجد الاقتصاد القطري يصارع باللحم الحيّ، بالغاً مستويات انهيار قد لا يكون الرجوع عنها بالأمر الهيِّن. كذلك إن القراءة في المؤشرات الاقتصادية تعطينا لمحة عن طبيعة وحجم طرفي الصراع ومقدرة كل منهما على الضغط والمقاومة، وتعطينا قدرة على التنبؤ بتلك الحدود التي لن يستطيع أي من الطرفين تجاوزها، وإلا فإن النتائج قد تطاول المنظومة الإقليمية برمتها، لأن لغة السياسة يؤطرها نحو الاقتصاد دوماً.
* كاتب سوري