لحظة دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، أحضر معه عنصر التشويق على أكثر من مستوى. تلك الشخصية التي ظهرت من خارج الهيكلية السياسية المعروفة قدّمت مشهداً مختلفاً، حتى إنّها أوجدت نوعاً جديداً من العروض في الجناح الغربي، حيث الحركة الدائمة على خط الاقتتال والصراعات التي لا تنتهي، والتي غالباً ما يقترن البحث عن حلول لها بنجم يختاره ترامب، عادة ما يكون جنرالاً عسكرياً.
قبل أشهر قليلة، سطع إتش آر ماكماستر كمنقذ لمجلس الأمن القومي من التخبّط الذي كان يعاني منه. حلّ حينها مستشاراً للأمن القومي بدلاً من الجنرال السابق مايكل فلين، الذي أقيل بعد نقاشات مطوّلة دخلت ضمن إطار اتهامه بـ«التعامل مع الروس»، وبعدما شعر ترامب بضرورة تنحية إحدى الشخصيات المقرّبة منه، على الرغم من التناقضات التي تفرّقهما.
وقبل يومين، سطع وزير الأمن الداخلي جون كيلي نجماً في البيت الأبيض وكبيراً لموظفيه، بدلاً من رينس بريبوس الذي كان من «الشخصيات المدنية» غير المحبّبة لدى ترامب. فما عُرف عن الرئيس، منذ بداية عهده، ميله إلى توظيف أفراد عائلته في المناصب الحساسة القريبة منه، وهو ما انعكس في اعتماده على ابنته إيفانكا وزوجها جارد، إضافة إلى منح مسؤولية بناء إدارته للشخصيات العسكرية، الأمر الذي تجلى في اعتماده على وزير الدفاع جايمس ماتيس وغيره، في ما عزته صحيفة «فايننشل تايمز»، أخيراً، إلى انتساب ترامب في شبابه إلى أكاديمية نيويورك العسكرية. «يبدو أن الرئيس يستمتع بأن يكون محاطاً بجنرالات سابقين وحاليين»، تنقل الصحيفة عن مساعدة وزير الدفاع السابقة، إيفلين فاركاس التي تعمل حالياً في «المجلس الأطلسي»، والتي ترى أن «هناك إشارات مشجّعة تدل على أنه ينوي الاستماع إليهم».

يرى البعض أن البيت الأبيض والبنتاغون يقضيان على دور
وزارة الخارجية

ولكن ما تقدّم لا يلغي التساؤلات التي تُطرح في كل مرة يقوم فيها ترامب بتغيير أحد موظفي إدارته، والتي تتمحور حول قدرة الأفراد المعيّنين على إحداث تغييرات بوجود شخصيّته المتعنّتة، وفي ظل تحكّم أبنائه في مفاصل مهمة في إدارته. وفيما لا تزال هذه التساؤلات قيد التحليلات والتكهّنات، ينحو البعض إلى الإجابة عنها بالإصرار على أن «أهم ما في الأمر، الآن، هو أن يتمكن كيلي من إخبار ترامب بما لا يريد سماعه، وإذا لم يتمكن من ذلك، فهناك فرصة كبيرة أن تكون رئاسته قد انتهت»، وفق ما تنقله «فايننشل تايمز» عن كريس ويبل الذي سبق أن أعدّ كتاباً عن كبار موظفي البيت الأبيض.
بغض النظر عمّا شهدته إدارة ترامب من تغييرات ــ منذ دخوله إلى البيت الأبيض إلى اليوم ــ وفي الوقت الذي لا تزال فيه هناك وظائف شاغرة في إدارته، فما حصل في الأيام القليلة الماضية يمنح أساساً واضحاً لهواجس ويبل وغيره. في ظرف أيام، شهد البيت الأبيض استقالة (أو إقالة) متحدث باسمه، وتعيين بديل منه، وتوظيف مسؤول اتصالات واستقالته، وأيضاً استقالة كبير موظفين وتعيين بديل منه. وفي كل ذلك رابط واحد يتمثّل في شخصية عسكرية جديدة باتت كل الأنظار موجهة إليها على أنها محرّك الدمى الذي سيتمكن من إنجاز ما لم ينجزه سابقوه في الجناح الغربي.
هذه النظرة رافقت ماكماستر سابقاً، الذي قيل إنه جاء ليفرض النظام بطريقة ما في مجلس الأمن القومي، وقد تمكّن من ذلك بإقالة كبير استراتيجيي ترامب، ستيفن بانون، من هذا المجلس، فهل سيتمكّن الجنرال كيلي من فرض النظام المنشود؟
بحسب «فايننشل تايمز»، فإن الشخصيات العسكرية «مُدرّبة على أخذ الأوامر من القائد العام للقوات المسلّحة (الرئيس الأميركي) بدل تحدّيه، ولكن ما يُعرف عن كيلي أنه يستعرض سلطة علنية، تمنحه فرصة أفضل من رينس بريبوس من أجل فرض أوامر». وما يؤكد نظرية الصحيفة البريطانية، هو ما تحقّق مباشرة بعد دخول كيلي إلى المشهد البيضاوي، أي إقالة المدير الجديد للإعلام في البيت الأبيض أنطوني سكاراموتشي، الذي عيّنه ترامب، قبل عشرة أيام فقط.
«يجب على كل شخص في الجناح الغربي في البيت الأبيض، بمن فيهم سكاراموتشي، العمل تحت سلطة كيلي، في عودة إلى التقليد المتّبع عادة في البيت الأبيض»، قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض سارة هاكابي ساندرز للصحافيين. «الجنرال كيلي لديه سلطة كاملة للعمل في البيت الأبيض، وجميع الموظفين يجب أن يرسلوا تقاريرهم إليه، وهذا يشمل الجميع في البيت الأبيض»، أضافت ساندرز.
إذاً شخصية كيلي العسكرية هي واجهة ترامب الجديدة، وهي لا تعدو كونها تأكيداً آخر لميله إلى توظيف العسكريين لحلّ مختلف المسائل. وما نشرته مجلة «فورين بوليسي»، أمس، يعلّل ذلك. «كيف كسرت إدارة ترامب وزارة الخارجية؟»، عنوان تقرير نشرته المجلة، ويعتمد بشكل أساسي على آراء موظفين ودبلوماسيين سابقين وحاليين في الوزارة، يشيرون إلى الجهد الدؤوب لترامب وإدارته من أجل تقييد عمل هذه الوزارة.
يقول هؤلاء إن «ترامب وإدارته يقوّضون ويهدّدون، أو حتى لا يزعجون أنفسهم لفهم عمل الوزارة»، معتبرين أن «إرث عقود من الدبلوماسية الأميركية يواجه خطراً». ولكن إلى ماذا تستند هواجسهم؟
فضلاً عن الفشل في ملء العديد من المناصب العليا الشاغرة في وزارة الخارجية، وإصدار سياسات غير متناسقة، وإبعاد موظفي الخدمة الخارجية بشكل منهجي عن صناعة القرار، «تقوم إدارة ترامب بضرب الدبلوماسية الأميركية، وتهدد دور القيادة الأميركية في العالم، في الوقت الذي يقضي فيه البيت الأبيض والبنتاغون على دور الوزارة في صناعة السياسة الخارجية».
وعلى حدّ تعبير عشرات الدبلوماسيين السابقين والحاليين الذين حاورتهم المجلة، فقد «كانت هناك آمال كبيرة بتسلّم تيلرسون وزارة الخارجية، ولكنها تبخّرت مع ازدياد منسوب عزلته». «إدارة ترامب تفرِّغ وتهمِّش وزارة الخارجية، من خلال الموقف الرافض للدبلوماسية وللموظفين المدنيين الذين يؤدّونها»، يقول هؤلاء، معربين عن هواجسهم من أن «الجسم الدبلوماسي يواجه أزمة غير مسبوقة».