عودة إلى حزيران عام 2000. قرر السيد حسن نصرالله القيام بزيارات غير تقليدية للرؤساء الثلاثة في حينه، إميل لحود، نبيه بري وسليم الحص. في عين التينة، بادر رئيس المجلس قائد المقاومة: مبسوط يا سيد؟ ردّ الأخير: طبعاً. فعقّب بري: لن يرحمنا كل الأعداء، من الأقربين والأبعدين، سيحاولون تدفيعنا ثمن انتصار نادر على إسرائيل. لم تكن المقاومة في حينه في غفلة عمّا يجري من حولها. وما أنجزته خلال ست سنوات من بناء جهوزية وتطوير قدرات، أعطى مفعوله في عام 2006. وبعد الانتصار الذي نعيش ذكراه هذه الأيام، كان الجميع يسأل عن طريقة انتقام العدو. وفي هذه الحالة، السؤال ليس عن إسرائيل فحسب، بل عن الولايات المتحدة (وباقي الدول الغربية) دولياً، وعن حلفائها العرب إقليمياً، وعن جماعتها من اللبنانيين. ما لا يذكره أحد عن تلك الحرب، يبدو أنّ من الضروري اليوم الحديث عنه. ففي الأيام العشرة الأولى من العدوان الإسرائيلي، حصل، للأسف الشديد، أن بادر «البعض» من أبناء القرى الحدودية، بدعم من شخصيات في 14 آذار، وقيادات أخرى لا مرجعية لها غير السفارة الأميركية، إلى إظهار الاستعداد لحدث كبير. كان بين هؤلاء من يصرح بأن «أيامنا عائدة بعد أن تسحق إسرائيل المقاومة».
وأكثر من ذلك، تحمس هاربون من ميليشيا العملاء في جيش لبنان الجنوبي، للعودة إلى لبنان على ظهر الدبابات الإسرائيلية.
مرة جديدة، لم تفعل المقاومة شيئاً، ولم تنتقم من أحد. ولكن هناك من بلغ فيه الجحود والتآمر حدوداً غير مسبوقة. كان هذا هو حال 14 آذار، عندما دعت إلى نزع سلاح المقاومة بعد يوم أو يومين على توقف عدوان تموز. ولم يأخذ هؤلاء راحة في حرب أطلقوها من ملف القرار 1701 وتفاصيله، إلى ملف التعويضات المالية للمتضررين في الجنوب، إلى الإجراءات الأمنية والسياسية في الحكومة، وصولاً إلى خيانة 5 أيار، بخوضهم معركة علنية لكشف المقاومة. يومها، كان لا بد مِن «تأديبهم، ولو بفركة أذن» لا أكثر.

توسيع مهمات القوات
الدولية لتشمل الحدود
البرية مع سوريا

في كل مرة تنتصر المقاومة، يكون العملاء كما الأعداء ينتظرون على المفرق. واليوم، ينشط الأعداء والعملاء للانتقام، في ضوء ما أنجزته المقاومة من تحرير الحدود الشرقية للبنان من الاحتلال العسكري للمجموعات المسلحة، التي تخضع لإشراف العقل التكفيري بقيادة السعودية وأعوانها، وعشية استعداد الجيش ــ بالتنسيق الأكيد مع المقاومة ــ لاستكمال الجزء الثاني من هذه المعركة.
ما يتجاهله بعض اللبنانيين، تحفظه إسرائيل والولايات المتحدة عن ظهر قلب. ذلك أن عملية تحرير جرود عرسال من المتطرفين، كانت خطوة في سياق إقفال ملف رئيسي عمل عليه محور المقاومة، ولا يتعلق فقط بتطهير كامل المناطق القريبة من دمشق والواصلة بينها وبين مناطق الوسط والساحل السوري من الإرهابيين، بل كان القرار، وهو ما تحقق: إمساك الحدود الغربية لسوريا مع لبنان. وهي خطوة تعني بالنسبة إلى اللبنانيين، إزالة الأخطار الكبيرة، وإبعاد الأخطار الأقل عن البلاد وأهلها. لكنها تعني للأميركيين، الفشل التام لمشروع عزل لبنان عن سوريا، وبمعنى أدق، قطع الصلة المباشرة والبرية بين النظام السوري الداعم للمقاومة، والمقاومة في لبنان. لأن ما يعني إسرائيل وأميركا من هذا الأمر، محاصرة المقاومة في لبنان من خلال قطع أهم طرق إمدادها بالعتاد، وخصوصاً الاستراتيجي منه.
ما حصل فعلياً، يعني بنظر الإسرائيليين، ومعهم الأميركيون، أن العزل لم يتم أبداً، وأكثر من ذلك، توسعت سيطرة حزب الله ونفوذه على المناطق الحدودية من قسم كبير من الجانب اللبناني، إلى غالبية الجانب اللبناني، وكل ما يماثله من الجانب السوري. لا بل إن العدو صار يشعر بلا جدوى القيام بعمليات عسكرية ضد ما يسميه قوافل الأسلحة الاستراتيجية للمقاومة الآتية من سوريا، بعدما صار يتصرف على قاعدة أن المقاومة تملك من النفوذ المباشر على طول الحدود اللبنانية السورية ما يكفيها لتخزين أكثر الأسلحة الاستراتيجية، وتملك نفوذاً مباشراً على منطقة تتيح لها التحرك والتدرب وتطوير المهارات والقدرات. وهو ما ترافق مع تعاظم نفوذ المقاومة في المناطق الجنوبية لسوريا، ولا سيما تلك المتصلة بجبهة الجولان والحدود المتصلة مع مزارع شبعا اللبنانية.

خطة أميركا ومطالبها

تكشف مصادر واسعة الاطلاع عن أهم نتائج زيارة الرئيس سعد الحريري للولايات المتحدة الأميركية، وعن مناخات استثنائية موجودة في واشنطن إزاء لبنان. وتلخّص المصادر ما يجري بالآتي:
ــ عاد الرئيس الحريري من الولايات المتحدة، بقرار واضح لاستمرار الدعم الأميركي للجيش اللبناني، وبأن برنامج العقوبات المقررة ضد حزب الله لن يكون بطريقة تؤذي مصالح حلفاء الولايات المتحدة في لبنان.
ــ فاجأ الأميركيون الحريري برغبتهم في العمل على تطبيق كامل بنود القرار 1701، والانتقال من حالة وقف الأعمال العدائية، إلى وقف إطلاق النار الشامل. وأن واشنطن تبدي استعدادها للضغط على إسرائيل لمعالجة أي ثُغَر يجدها لبنان أساسية، بما فيها مسألة الغجر، شرط تجاوب لبنان بخطوات مقابلة.
ــ إبداء الولايات المتحدة استعدادها العملاني والمباشر، لإطلاق مفاوضات غير مباشرة بين لبنان وإسرائيل تهدف إلى ترسيم الحدود البحرية بين الجانبين، وحسم الجدل حول حدود المنطقة الاقتصادية للبنان في البحر، وحيث مشاريع استخراج النفط والغاز.
بحسب المصادر نفسها، فإن الحريري سمع طلبات أميركية بأن يوافق لبنان على إدخال تعديلات جوهرية على القرار 1701، لناحية:
أولاً: زيادة عديد القوات الدولية المنتشرة في لبنان، وتوسيع انتشار ومهمات قوات الطوارئ الدولية، وزيادة وتكثيف انتشار القوى العسكرية والأمنية اللبنانية.

منح «اليونيفل» حق
القيام بمنع وجود
المسلحين والسلاح

ثانياً: تعديل المهمات المباشرة للقوات الدولية في مناطق انتشارها جنوب نهر الليطاني، بحيث تتجاوز «مساعدة السلطات اللبنانية على بسط سلطتها» لتشمل قيام القوات الدولية بالخطوات الكفيلة بمنع وجود مسلحين وأسلحة في هذه المنطقة، بما يعفيها من مهمة التنسيق المسبق والمباشر والإلزامي مع الجيش اللبناني.
ثالثاً: توسيع منطقة عمل القوات الدولية لتصبح مسؤولة عن كامل حدود لبنان البرية والبحرية، ونشر آلاف الجنود الإضافيين على طول الحدود البرية مع سوريا، والتموضع عند جميع المعابر البرية مع سوريا ضمن عمق في الأراضي اللبنانية لا يقل عن 15 كلم. وضمان عدم انتقال أسلحة غير شرعية من سوريا إلى لبنان.

تهديد بحرب إسرائيلية

وفي هذا السياق، تنقل شخصية بارزة عائدة من الولايات المتحدة، عن مسؤول أميركي رفيع المستوى قوله إن الرئيس دونالد ترامب وفريقه في الأمن القومي، يواجهان ضغوطاً غير مسبوقة، من جانب مؤيدين لتغطية إسرائيل ودعمها للقيام بعملية عسكرية كبيرة ضد حزب الله في لبنان وسوريا إذا تطلب الأمر. وإن حجم الضغوط يتجاوز كل المرحلة السابقة، ولا سيما أن في واشنطن من يجزم بأن إسرائيل لن تكون قادرة على المغامرة بخطوة عسكرية من دون موافقة أميركية واضحة، لأن للحرب تداعيات تتجاوز حزب الله لتشمل إيران وروسيا وربما أطرافاً أخرى في المنطقة، وإن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد تسمح لأحد من حلفائها بالقيام بعمل يسبّب خطراً على الآلاف من جنودها المنتشرين في العراق والمئات منهم في سوريا.

مغامرة جديدة للحريري و 14 آذار؟

الحريري فهم الكلام من دون حاجة إلى شرح إضافي. وهو سبق له أن ناقش في لقاءاته مع حلفائه في 14 آذار الفكرة، وسبق أن قرأ مشاريع تصبّ في خدمة هذا الهدف. وهو يعرف أن الهاجس الأميركي ــ الإسرائيلي يتصل بعمليات تسليح حزب الله من جهة، وبمنع انتقال عناصر المقاومة من لبنان إلى سوريا لدعم الحكومة السورية في معاركها ضد الإرهابيين، خصوصاً أن سوريا مقبلة على جولات حاسمة جنوباً وشرقاً وحتى شمالاً في الفترة المقبلة.

ترسيم الحدود البحرية
مع العدو ومعالجة
مشكلة الغجر

إلا أن الأخطر في الحكاية، لا يتعلق بأن الحريري أبدى موافقة ضمنية وطلب الوقت حتى يعود لبحث الأمر في لبنان مع الشركاء في الحكم، بل في أن بعض المحيطين برئيس الحكومة وقوى 14 آذار، باتوا متحمسين اليوم لقيام الجيش بعملية تحرير جرود رأس بعلبك والقاع من «داعش»، ليس بقصد إبعاد هؤلاء الإرهابيين، بل بقصد القول بأن الجيش بات قادراً على القيام بمهمات كبيرة، ما يوجب نزع سلاح المقاومة أو إخضاعه لسلطة الجيش وبالتالي للسلطة السياسية، والذهاب ربما أبعد من ذلك، في دفع الجيش نحو مواقف من شأنها إدخاله في فتنة داخلية كبيرة. ويعرف الحريري هنا، أن من يقف في طريقه لتحقيق هذا المشروع، ليس طرفاً واحداً. فلا الجيش مستعد لهذا الأمر، وهناك موقع وموقف الرئيسين ميشال عون ونبيه بري، وحتى موقف النائب وليد جنبلاط.
لا شك في أن الولايات المتحدة الأميركية ومعها إسرائيل والسعودية والإمارات العربية المتحدة وفرنسا وبريطانيا، كل هؤلاء لا يتوقفون عن محاولة ضرب المقاومة بأي طريقة. لكن السؤال الأساسي اليوم هو: هل عادت بقايا 14 آذار إلى الألعاب القذرة؟ وهل عاد الحريري إلى الرهان على الخارج لضرب المقاومة؟
أما القوات الدولية نفسها، الموجود منها أو التي يُراد إرسالها، فمن الأفضل لدولها أن تُجري منذ الآن مناورات على كيفية مواجهة «غضب الأهالي»... وما أدراك ما «غضب الأهالي»؟!