في الكورة تنتشر «حزورة»: أين تقع الشاليهات البيضاء ذات الشبابيك الزرقاء أمام الخليج اللازوردي: في سانتوريني اليونانية أم بروتاراس القبرصية أو في أنفه الكورانية؟ الإجابة الصحيحة: شاطئ «تحت الريح»، وهو الواجهة البحرية لأنفه حيث البنى التحتية السياحية تنافس مثيلاتها في اليونان وقبرص.
شَبَه ساحل أنفه التكويني بشواطئ اليونان ألصق بها لقب «أنفوريني». إلا أن بعض الأنفاويين يرفضون اللقب، كما يرفضون أن تنحصر حركة السياح من سياراتهم إلى «تحت الريح»، من دون رؤية المشهد كاملاً. فالبحر جزء من إرث شبه الجزيرة التي سماها الفينيقيون AMPI بسبب شبه تضاريسها الداخلة في البحر بالأنف.
الأهالي الذين خبروا الهواء من العمل في الملاحات، اصطلحوا على تسميتها «تحت الريح» بسبب حركة الهواء الجنوبية والغربية على مدار السنة. على أطرافها، شيّدوا غرفاً صغيرة للاقامة. وبعد إقفال الملاحات بسبب تراجع مردوها الإقتصادي، تحوّلت الغرف إلى مقاه تمددت بعدما اجتذبت الزوار.
لا تمل رشا دعبول، رئيسة «هيئة أنفة وجوارها»، من إجراء دوريات مراقبة يومية في «تحت الريح» تحسباً لوقوع تعديات. حفظت السجل التاريخي لمقتنيات المكان الذي لا يرى فيه كثيرون سوى «مياه نظيفة للسباحة ولقمة طيبة». تأسف لأن الزوار المتزايدين صيفاً بعد آخر، لا يدركون قيمة المكان بجلّه. أنفه بلدة تعوم فوق التاريخ. لكن اللوم الأكبر يقع على الجهات الرسمية للحفاظ على الآثار والترويج لها عالمياً.

حول السابحين ووسط صخب الموسيقى، ينفرد أفراد بعثة أثرية أجنبية بزاوية من الرأس للتنقيب عن بقايا القلعة الفينيقية (صنفت عام 1973 موقعاً أثرياً) التي سمي الرأس باسمها «رأس القلعة». تنقل المراجع التاريخية أن المماليك هدموا القلعة التي استخدمها الصليبيون كخط دفاع وهجوم. لكن أساساتها التي حفرت بالصخر لا تزال ظاهرة. الخندق المحفور بالمطرقة والإزميل، يبلغ طوله حوالي خمسين متراً وعرضه عشرين متراً وارتفاعه عشرين متراً، استخدم كقناة لجرّ المياه من جانب إلى جانب يربط بينهما جسر خشبي متحرك قاعدته لا تزال ظاهرة. ينقب الأثريون الأجانب عن أثر لأبراجها الإثني عشر وخنادقها وأسوارها وأمكنة صناعة السفن لرسم دراسة واضحة عن موقع أنفه الإقتصادي في ذلك الزمن.
فوق المقاهي، تنشغل بعثة أخرى، منذ خمس سنوات، بإعادة رسم نقوش جدارية القديس جاورجيوس في كنيسة سيدة الريح التي تؤكد المراجع التاريخية أنها أول كنيسة بنيت للسيدة مريم العذراء في العالم، والتنقيب في أساساتها التحتية للبحث عن كنيسة أقدم. «بير السيدة» واحد من الآبار المحيطة بالكنيسة وتحتها، وتعود إلى عهود الكنعانيين والفينيقيين حين استخدمت لتموين السفن بالمياه الحلوة.

تؤكد المراجع
التاريخية أن كنيسة سيدة الريح أول كنيسة بنيت للسيدة العذراء في العالم



يمر رواد البحر، نحو المقاهي، بين الصخور أو فوقها، ومعظمهم لا يدرك أن تحتها مدافن فارسية تعود للقرن السادس قبل الميلاد ومعاصر للزيتون والعنب وأجران استخراج الملح الفينيقية التي كانت منتجاتها تنقل الى أنحاء العالم. ورغم أن أصحاب المقاهي، وهم من أبناء البلدة، يدركون القيمة التاريخية لمنطقتهم، إلا أن ذلك لم يمنع بعضهم من صبّ الإسمنت فوق الصخور وتكسير بعضها لإنشاء أرضية أو بناء مرحاض. عضو بلدية أنفة كريستيان دعبول أكدت أن البلدية الحالية «تشرف على عمل أصحاب المقاهي وتمنع التمدد الإسمنتي وتفرض استخدام المواد الخشبية القابلة للإزالة».
خرّجت الهيئة أدلاء لمرافقة الزوار. لكن تلك المرافقة تفتقد للبنى التحتية التي تقود الزائر إلى مسار سياحي واضح يعتمد على يافطات إرشادية وملصقات تعريفية. قلة من زوار البحر يستديرون شمالاً نحو الشارع المتفرع من «تحت الريح» ليكتشفوا القلعة أو كنيسة القديسة كاترينا التي شيدت في القرن الثاني عشر (أدرجت كموقع أثري عام 1937) وكنيسة مار سمعان ومار ميخائيل التي شيدها البيزنطيون (أدرجت كموقع أثري عام 1959)، ودير مار يوحنا الأثري الذي بني على أنقاض كنيسة بيزنطية بجوار مدافن صخرية تعود الى القرون المسيحية الأولى، وخليجي الدباغة وتلونا حيث تشير المراجع التاريخية إلى أنهما موقع المرفأ الفينيقي الجنوبي.

ثورة الملح

منذ عام 1975، يقيم يوسف السوري على شاطئ سيدة الناطور. حمل خبرته التي ورثها عن والده بالعمل في الملاحات على شواطئ اللاذقية واستقر في أنفة. حينها، كانت البلدة «كلها غبابيط من رأس الملاليح جنوباً لناحية شكا إلى رأس الناطور شمالاً لناحية القلمون مروراً برأس القلعة وتحت الريح». والغبيط هو الجرن المحفور بالصخر الذي تتجمع فيه مياه البحر «العايشة» أو «الطازة»، أي النظيفة، كي تتبخر تحت حرارة الشمس والهواء ويبقى الملح في القعر.

المهندس جورج ساسين (60 عاماً) ورث سر الملح عن أهله كمعظم أبناء أنفة. الملح و«الحريشة»، أي زراعة الزيتون بمحاذاة البحر، ميّزا أنفة في محيطها. كان النشاط الإقتصادي للأهالي يقتصر على الزيتون والعنب وتربية دود القز والملح صيفاً. لكن الملح، خصوصاً، كان صنعة النساء. «كن نحيفات بسبب الجهد الجسدي المبذول. بالجرة والدلو كن يغرفن مياه البحر ويمشين بها عشرات المرات رواحاً ومجيئاً إلى الغبيط. خلال الحكم العثماني والإنتداب الفرنسي، مُنع استخراج الملح، فكانت النسوة تملأن مياه البحر بالجرار على رؤوسهن في ظلمة الليل ويحملنها مئات الأمتار نحو التلال حيث أنشأ الأهالي غبابيط سرية».
بعد قرار مجلس النواب عام 1938 بتحطيم أجران الملح حماية للإحتكار، ارسلت الحكومة قوة من الدرك لتنفيذ القرار مدعومة بجنود فرنسيين. ثورة الملح التي أعلنها الأهالي أثمرت عام 1940 سماح الحكومة باستخراج الملح ودفعت برئيس الجمهورية عقب استقلال 1943 إلى تنظيم القطاع شرط نيل تصاريح. بعد 1943، عاشت أنفة ازدهاراً كبيراً. عام 1956، أصدر وزير الشؤون الإجتماعية قرارا بترخيص تأسيس نقابة مركزها انفة غايتها رفع مستوى اصحاب الملاحات، رئيسها الأول كان عزيز جبور.

زهرة الملح

أنفة عروس الملح. يحفظ الأنفاويون إحصاءات عن القطاع، منها أن لبنان كان ينتج قبل الحرب الأهلية 50 الف طن، منها 35 الفا تنتجها أنفة وحدها. عام 1960، تأسس اول مصانع إنتاج الملح في القلمون المجاورة التي تعتمد على معالجة الملح الخام المستورد بشكل خاص من مصر. بعد مدة، أسست الحكومة معامل الوقود في الواجهة البحرية الجنوبية لأنفة وأنشأت شركة الترابة الوطنية على العقار رقم واحد، الأمر الذي ضرب استخراج الملح في رأس الملاليح المجاور. وزير المالية الأسبق صائب جارودي صرف تعويضات للملاحين عن الملح الأسود الذي استخرج بسبب التلوث المزدوج. حرب 1975، ساهمت بهجرة الكثير من الملاحات من أنفة إلى سلعاتا وشكا وكفر عبيدا. لاحقاً، ضرب الملح المصري السوق. الحكومة تسمح باستيراده من دون رسوم جمركية. في أنفة، تراجعت مساحة الملاحات إلى أقل من 400 ألف متر مربع تقع في الواجهة الشمالية في أراضي دير سيدة الناطور.

تدريجياً، ساهمت الحكومة بضرب القطاع. قانون تنظيم الشواطئ الشمالية عام 1972 لم يأخذ في الإعتبار وجود الملاحات بمحاذاة الشاطئ، إنما صنف كل العقارات الواقعة تحت الطريق العام سياحية. انتشرت المنتجعات السياحية ومنها «لاس ساليناس»، أي الملاحات بالإسبانية، على أنقاض الملاحات الحقيقية.
عام 2006 اعتمد تصنيف جديد لأنفة وفيه أن العقارات التي تحتوي على ملاحات تحتاج إلى تراخيص من المجلس الأعلى للتنظيم المدني. أخيراً، راج اقتراح بتحويل منطقة رأس الملاليح وامتداداتها إلى منطقة صناعية بترولية مواكبة لمرحلة استخراج النفط المقبلة. إلا أن البلدية لم تبد موافقة نهائية.
صمد الأنفاويون أمام محاولات ضرب الملح المحلي. لم يتأثر وفاؤهم لملح أرضهم. البعض يعتب على الدكاكين التي تبيع الملح المستورد. علماً بأنهم لا يتناولون أي نوع من الملح، إنما «زهرة الملح» التي تطفو على وجه الغبيط كطبقة رقيقة على شكل زهرة بخمس ورقات. عندما «تطرد» الملاحة، أي يركد الملح، «يكشط» الملاحون طبقات الملح: الزهرة والخشن والثقيل والمر الذي يترسب في قعر الغبيط.




دواليب الهوا


نقل المياه بالدلو، تطور لاحقاً إلى شق قنوات من الخشب أو حفرها بالصخر لجرها إلى الغبابيط. في بداية الأربعينيات، سكن كاتب روسي في دير سيدة الناطور الذي يتوسط مساحة 700 ألف متر مربع من الملاحات. صنع دولاب هواء من الخشب لتوليد الطاقة لإضاءة لمبة في غرفته في الدير المهجور. سرعان ما تلقف الملاحون الفكرة واستخدموها لجر مياه البحر إلى الغبابيط. أمين ياسمين كان اول صاحب ملاحة استخدم دولاب هواء، تبعه أقرانه حتى تحول الشاطئ الأنفاوي إلى مروحة كبيرة تحركها الريح. كانت الدواليب تعاند الريح وكان الملاحون يعيدون رفعها بعد كل شتاء. إقفال معظم الملاحات أزال معظم الدواليب. أخيراً، بادر الحداد رامح نخول إلى صنع دولاب هواء لإحياء تراث البلدة، بدعم من لجنة مهرجانات أنفة. آخر الدواليب سقط أمام العواصف عام 2010. الشاعر غابي دعبول نظم قصيدة رثاء ليس للدولاب فحسب، بل لإرث البلدة الذي يضيع.
لاحقاً، قامت هيئة تراث أنفة والجوار بالتعاون مع جامعة البلمند برفع دولاب هواء بجانب دير سيدة الناطور لإضاءته استفادت منه الملاحات المجاورة. في الأشهر الماضية، استكملت رفع 24 دولاباً بألوان زاهية على طول شاطئ أنفة.




أنفه في التاريخ

في النقوش الأشورية التي تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد وردت أنفه باسم AMPA أي السفينة ذات الصفوف الثلاثة من المجاذيف. كان اسمها «ترياريس»، أي السفينة، في العهد الروماني اليوناني، واعتمدت كمركز أسقفية. أما الصليبيون فقد سموها NEFA، وحكمتها في القرن الثاني عشر عائلة لينوار (LENOIR) من جنوب فرنسا. وفي زمن المماليك كانت ولاية لناحية بشري، لكن السلطان قلاوون دمّرها وهجّر أهلها الذين عادوا إليها في زمن العثمانيين في القرن السابع عشر. حينها تحولت إلى ناحية تتبع لها 13 قرية و14 مزرعة.