منذ بدء المعركة التي يخوضها الجيش اللبناني ضد تنظيم «داعش» الإرهابي، وفي موازاة التعبئة السياسية والدعم الشعبي والحملات الإعلامية تضامناً مع الجيش، كان لا بد من كلام مباشر مع المؤسسة العسكرية حول طبيعة المعركة وحيثياتها والتقدم الذي أحرزته والأهداف الموضوعة لها، وحول مصير العسكريين المخطوفين.
إضافة الى أسئلة حول واقع المعركة والمهل التي تعطى لها، والكلام عن اقتراب النصر، وعن قدرة الجيش على تحرير مئة كلم في أيام قليلة، إضافة الى ما يثار عن ترتيبات ومفاوضات أدت الى انسحاب عناصر «داعش» من المنطقة الجردية، وطبيعة المعركة التي لم يحصل فيها اشتباك مباشر بين الجيش والتنظيم حتى الآن.
مصدر عسكري رفيع أكد لـ«الأخبار» أن لكل معركة أهدافاً يحددها الجيش الذي يخوضها. وحين قرر الجيش خوض معركة الجرود، كانت لديه ثلاثة أهداف: استرداد الأرض التي تحتلها التنظيمات الإرهابية؛ إزالة الخطر الإرهابي عن لبنان بعد تفاقمه بتجنيد عناصر إرهابية وتشكيل مجموعات إرهابية والتخطيط لتفجيرات انتحارية؛ وكشف مصير الجنود الأسرى المفقودين. وشدد على أن الهدف الأخير «أساسي، وكان ولا يزال أصعب الأجزاء على الجيش الذي يضع سلامة جنوده في مقدم اهتماماته، علماً بأن المساحة الجغرافية التي يجري الحديث عنها، سواء في لبنان أو بين لبنان وسوريا، كبيرة وواسعة وخالية من لبنانيين يمكن أن يتعاون معهم الجيش. ولا توجد تالياً أي وسيلة علمية متعارف عليها للحصول على معلومات حول الجنود».

لا يعني الجيش
إلى أي منطقة
يهرب المسلحون
خارج الحدود، بل يعنيه تحرير أرضه فحسب


ورفض المصدر، بداية، اعتبار أن المعركة بدأت قبل أيام فقط، مشدداً على أنها «نتيجة جهد عمره شهور وسنوات، بدأ بعد احتجاز العسكريين وما لحق بالجيش حينها من خسارة واستشهاد ضباط وجنود في المعركة، وخسارة آليات ومعدات. فمنذ عام 2014، ينفّذ الجيش عمليات تطويق متقدمة على طريق تجفيف منابع التنظيمات الموجودة في الجرود، عن طريق الإجراءات التي اتخذها فوج الحدود لمنع التهريب. وليس هذا الأمر بسيطاً في إدارة المعركة، لأن خطوط الإمداد لهذه التنظيمات قطعت تدريجاً، وجُففت منابع تمويلها المالي والغذائي. وفي المقابل، لا يجب إغفال أن هذه التنظيمات كانت تستغل عناصر في السهل وفي محيط عرسال لتجنيدهم وإرسالهم في عمليات انتحارية. لذا تضاعف في الأشهر الماضية تضييق الخناق على الجرود والسهل معاً، وكان يتم في صورة مترابطة، عسكرياً واستخبارياً، ما ترجم بتنفيذ عمليات توقيف متكررة لمسلحين وإرهابيين، وقطع كل الموارد عن البقية منهم».
وأوضح المصدر أنه مع تسلم قائد الجيش العماد جوزف عون مهماته، وهو الذي سبق أن نفّذ إجراءات استباقية لتضييق الخناق على المجموعات المسلحة حين كان قائداً للواء التاسع، بدأ الإعداد لعملية تحرير الجرود، علماً بأن الجيش استفاد من أمرين أساسيين:
ــــ الأول انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة، ما أعطى شرعية ودفعاً لعمل الجيش، بعدما تخبّطت البلاد أكثر من سنتين في تجاذبات سياسية نتيجة الفراغ الرئاسي. وهذا الدعم ترجم في زيارة رئيس الجمهورية لقيادة الجيش مع بداية العملية وزيارة رئيس الحكومة سعد الحريري للجرود وعرسال.
ــــ الثاني هو الانتخابات البلدية التي أتت بمجلس بلدي في عرسال متعاون مع كل الإجراءات التي يقوم بها الجيش، لأن أهل عرسال أيقنوا أن هذه الإجراءات تساهم في تحقيق سلامتهم والتخفيف من الأثقال عليهم، وخصوصاً أن أعباء النزوح السوري الكثيف عليهم كانت مرتفعة.
يضاف الى ذلك أن الجيش تمكّن من ضبط الوضع في جرود عرسال وعزز كل مراكزه وأعاد تثبيت نقاطه المتقدمة والخلفية، وانتقل من مرحلة الحصار ومنع التهريب الى تضييق الخناق على كل المستويات اللوجستية والغذائية، وإلى مهاجمة أهداف محددة داخل المخيمات التي كان يستغلها الإرهابيون.
هذا العرض يمهد للقول إن العملية العسكرية لم تبدأ قبل أيام قليلة، وإن أخذت حجمها الأخير مع إعلان قيادة الجيش بدء عملية التحرير. لكن جميع المعنيين يعرفون أن التدابير التي اتخذها الجيش ساهمت في مجريات المعركة وتحرير مئة كلم في الأيام الأخيرة، لأنها أدت ــــ ولا سيما بعد انسحاب عناصر «النصرة» و«سرايا أهل الشام» من المنطقة وتحييد المدنيين ــــ إلى تهيئة الأرضية المناسبة لتحرير الجرود.
ومن المعلوم أن المساحة التي كانت تخضع لسيطرة «داعش» تشكل ضعف المساحة التي كانت تسيطر عليها «النصرة»، فما هي العوامل التي ساهمت في سيطرة الجيش على مئة كلم منها، وهل صحيح أن عناصر التنظيم تركوا المنطقة قبل بدء العملية وفق ترتيب مسبق؟
يرفض المصدر العسكري، أولاً، أي كلام عن ترتيبات مسبقة أو مفاوضات أدت الى سحب التنظيم عناصره. ويصف هذا الكلام بأنه «معيب في حق الجيش» الذي لم يدخل في أي تفاوض مع «داعش»، لا من قريب أو من بعيد، لا في ما يخص مجريات المعركة أو لتأمين انسحاب العناصر الإرهابية، ولا حول مصير الجنود المفقودين. فالحكومة أوكلت المهمة الأخيرة إلى المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، وهو الذي يتفاوض في هذا الملف، وكل ما تتبلغه أي قناة تفاوضية يبلغ بها ابراهيم وليس الجيش. وأي كلام عن ترتيب مسبق أو تفاوض يسيء الى الجيش»، مؤكداً أن «الجيش يخوض معركة عسكرية نظيفة لا سياسة فيها».
ويذكّر المصدر، ثانياً، بأن تنظيم «داعش» ينتشر في منطقة جردية واسعة تضم تلالاً وسهولاً وخنادق ومغاور، منها ما هو في لبنان أو في سوريا. «وما يعني الجيش فقط هو المنطقة اللبنانية التي بدأ يحكم سيطرته عليها حدودياً. وقد واجه الجيش تنظيماً لا قيود لديه في المعركة، أي أن عناصره مقاتلون متمرسون يريدون الموت، يتحركون في سرعة ويتخلون عن الأرض التي يقاتلون فيها بسرعة لينتقلوا الى أخرى. فلا معدات أو آليات ثقيلة لديهم لنقلها بما يعيق حركتهم. لا بل ظهرت قدرتهم على التحرك عبر مئات الدراجات النارية وبواسطة الدواب للهرب بين المغاور، وفي إمكان عناصره وضع رشاشات على التلال، والتنقل عبر دراجات نارية بينها لرمي النيران من دون التمركز على أي تلة في صورة دائمة». وأوضح المصدر أن الجيش اعتمد، في المقابل، استراتيجية عسكرية مختلفة، قامت أساساً على القصف المركّز براً وجواً. وكانت قوة النيران شديدة على مراكز التنظيم وأماكن انتشاره، في صورة مركزة أدّت الى تدمير شامل لكل مواقعه. وقد دفع الجيش الى المعركة بقوة كبيرة وأمّن لها حشداً عسكرياً غير مسبوق مؤلفاً من ستة آلاف عسكري موزعين على كل المهمات. لكنه كان حريصاً منذ اللحظة الأولى على تجنب الخسائر البشرية في صفوفه، وتغليب القصف المدفعي لإجبار التنظيم على الانسحاب. وقد عزز عمل الجيش أن «داعش» فقد خط دفاعه الأول، أي «جبهة النصرة» مع الأرض التي كانت تحتلها ومن ثم «سرايا أهل الشام». كما فقد خط الإمدادات والمحروقات الضرورية لتحركه. لكنه، في المقابل، كثّف من عمليات التفخيخ التي تسعى أفواج الهندسة في الجيش الى تنظيف الطرق منها لتسهيل تحرك الأفواج والألوية في طريقها الى تضييق الخناق على التنظيم الإرهابي.

ماذا بعد الإنجاز الذي حققه الجيش، وماذا عن المنطقة الباقية تحت سيطرة التنظيم؟

يؤكد المصدر العسكري أن الجيش لم يحدد أي مهلة زمنية لانتهاء المعركة، ولم يضع لها مواعيد. لكنه حكماً لن يكون في موقع استنزاف، ولن يترك التنظيم في البقعة التي التجأ إليها الى ما لا نهاية، وخصوصاً في ظل برودة الطقس في تلك المنطقة الوعرة، واضعاً أمام عينيه هدفين: استكمال تحرير الأرض ومعرفة مصير العسكريين المخطوفين. وهذا يعني أن الجيش الذي أخذ حتى الآن استراحتين، الأولى بعد استشهاد ثلاثة جنود في لغم أرضي، والثانية بعد إنجازه تحرير مئة كلم، يرسم استراتيجية جديدة، بعدما سهّل تنقل آلياته وقصر مسافات تنقلها من نقطة تجمعه الرئيسية ونظف الطرق التي تعتمدها، لإحكام السيطرة على المربع الأخير، واعياً بدقة لما تحويه تلك المنطقة الوعرة من مطبات وفخاخ وتضاريس جغرافية يرسم لها بروية طريقة السيطرة عليها، علماً بأنه يستكمل عملية انتشاره وإحكام السيطرة على كامل المنطقة التي حررها حتى الآن. واستطراداً، فإن العملية مستمرة حتى تحرير مئة وعشرين كيلومتراً من جميع العناصر الإرهابية، ومعرفة مصير المخطوفين.
وعن مصير العناصر الإرهابية، يشير المصدر الى أن المعلومات الأمنية كانت تتحدث عن عدد تقريبي يراوح بين 500 و1200 عنصر، من بينهم مدنيون موالون لهم، يتنقلون بين لبنان وسوريا في المنطقة الجردية، ويقدر عدد المتبقين منهم في لبنان بـ 500، لا يزال منهم نحو مئتين في البقعة التي انسحبوا إليها. «ولا يعني الجيش الى أي منطقة يهرب المسلحون خارج الحدود اللبنانية، وإلى أين ينسحبون تحت ضغط القصف المدفعي، بل يعنيه تحرير أرضه فحسب».

ماذا بعد إنجاز التحرير؟

استفاد الجيش من دعم رئيس الجمهورية والحكومة ورئيسها في عملية تحرير الجرود، الأمر الذي يمكنه من الانتقال الى المرحلة التالية بسهولة متكئاً على دعم الطرفين. انتهاء العملية يرتب على الجيش استكمال انتشاره على الحدود وتركيز مواقع ثابتة له، وهذا يعني عملياً كلفة مالية عالية تستلزم إقامة مراكز متقدمة واتصالات وتعزيز هذه المواقع. وهذا الأمر سيكون برسم الحكومة والسلطة السياسية لتأمين المتطلبات المالية الضرورية لتثبيت نقاط التمركز الحدودية وتأمين انتشار الجيش على كامل الحدود.