في الوقت الذي يُرسل فيه بعض الرجال الناس إلى القبور والمشافي والإعاقة، كان بعض العلماء يحمون الناس من الموت المبكر والمرض والشلل. وبينما كانت الحروب الأوروبية تقضي على البشر، كان إدوارد جينير، عام 1790، يقضي على الجدري القاتل من خلال اكتشافه اللقاح الأول في العالم ضد مرض الجدري. أضاف باستور وسابين وهيلمان لقاحات ضد آفات خطيرة أنقذت ملايين الأطفال والبالغين ليومنا هذا، واستئصلت تماماً بعضاً من تلك الآفات.رغم كل ذلك، يخاف الناس اللقاحات، والبعض منهم لا يثق بها لارتباطها بعوارض طويلة الأمد كمرض التوحد وموت المواليد المفاجئ وغيره.

تُفند منظمة الصحة العالمية ستة من المفاهيم الخاطئة حول اللقاحات لتؤكد فعالية وسلامة اللقاحات في منع العديد من الأمراض الفتاكة. يتم سنوياً مراجعة وتدوين ملايين الحالات الملقحة وتسجيل أي نوع من العوارض وذلك في معرض التأكد المستمر من السلامة والأمان. لكن إدراك الطب شيء وإدراك الناس للمخاطر شيء آخر كما جاء في البحث الوافي لبول سلوفيك عام 1987.
 يختلف إدراك الناس لمخاطر اللقاح بربطه اللقاح بتجارب طبية أو بنوايا الحكومات والمنظمات الأجنبية أو حتى بالمؤامرات. في نيجيريا وباكستان وأفغانستان تواجه برامج وحملات التلقيح معارضات "سلمية و غير سلمية" لاعتقاد الناس هناك أن هذه اللقاحات هي جزء من مؤامرة "لتعقيم أطفال المسلمين". طبعاً تقصير رعاة الحملات في فهم الخصائص المجتمعية ومركبات إدراك المخاطر مسؤول عن تصرفات تلك المجتمعات وانطباعاتها
لا يساعد القطاع الطبي أحياناً في نزع الخوف من الأفراد في ما يتعلق باللقاحات، كونه لا يحاول أن يتفهم مصدر المخاوف وأسبابها، ويعتمد دوماً التعليل الطبي التقني والذي قد لا يستسيغه البعض. بعض مقدمي الرعاية لا يُظهر حماسة كافية لموضوع اللقاحات.
عندما يسري خبرٌ ما عن نبتة ما أو علاجٍ يطيل العمر أو يديم الشباب، يتهافت الناس إليه زرافات، ويبذلون له الغالي والنفيس. لا يكون الأمر كذلك لبعض اللقاحات للأطفال والبالغين.
لو جاء من يخبر الناس أن هناك لقاحات لمنع الأمراض السرطانية، لهلّل بعضهم وتوجس البعض الآخر. قد لا يدرك البعض أن لقاح التهاب الكبد الوبائي ب هو لقاح إلزامي ويُعطى عالمياً ومحلياً، هو عملياً لقاح ضد سرطان الكبد. ثم جاء الطب بخبر مجلجلٍ آخر عن منع سرطان آخر، سرطان عنق الرحم، أول سرطان نسائي يتم منعه بواسطة لقاح. أظهرت مئات الدراسات ومراجعة مئات آلاف الحالات الملقحة عن منع نهائي لسرطان عنق الرحم. وللتذكير، هناك ما يناهز 530 ألف إصابة جديدة سنوياً يقضي نصفها موتاً نظراً إلى غياب الوقاية والتشخيص المبكر.
يتيح اللقاح- والذي تبنته أكثر من 140 دولة في العالم- أن يمنع الإصابة اذا ما أُعطي للفتيات بدءاً من عمر 11-12 حتى عمر 26 عاماً بمعدل جرعتين خلال ستة أشهر بحسب الإرشادات العالمية الجديدة. كما ويمكن للفتيان ان يستفيدوا من اللقاح حتى عمر 21 عاماً. بعد مرور سنوات طويلة على إعطاء اللقاح، بينت الأبحاث حجم الخفض الحاصل بالإصابات بسرطان عنق الرحم ومسبباته.
لوهلة يظن المتابع أن الناس سوف "تستميت" للحصول على اللقاح والاستفادة منه في منع سرطان عنق الرحم والسرطانات المهبلية الأخرى التي يتسبب بها نفس الڤيروس، لكن واقع الأمر ليس كذلك. هنا أيضاً يضيع إدراك الناس المشوه لمخاطر اللقاح فرصة منع سرطان قاتل للنساء. هنا بالإضافة إلى ربط البعض بين التلقيح ضد السرطان الآتي من ڤيروس يتناقل عبر العلاقات الجنسية غير المحمية، و"الضوء الأخضر" لبدء تلك العلاقات. فاتهم أن لا صلة بين الحدثين ولا من علاقة سببية ترفع شكوك الناس تجاه اللقاح ومنافعه الواضحة.
ولا يزيد من المغالطات إلا بعض أفكار مقدمي الرعاية الذين يظهرون شكوكهم باللقاحات ووجوب عدم استعمالها من قبل الفتيات ويلتبس عليهم ضرورة منع المرض ووجوب "الحظر الجنسي" حيث لا علاقة كما أسلفنا ولا "دور ردعي" للخدمات الصحية سوى تعزيز الصحة ومنع المرض ضمن إطار الحقوق الصحية للأفراد. يفشل النظام الصحي عندما يتساقط الناس ضحايا لأمراض يسهل منعها وتتوافر الوقاية منها وهذا هو المقياس الأخلاقي الحقيقي.
ندين بالكثير لكل إنجاز علمي يحمي صحة الناس ويمنع الأمراض. تأتي اللقاحات على قمة هذه الإنجازات والعديد منها آتٍ، بانتظار لقاحات ضد النفاق والفساد.
* اختصاصي جراحة نسائية
وتوليد وصحّة جنسية