بدأت قصة «مجموعة السفير كروكر» التي تسمى رسمياً «مجموعة عمل مستقبل العراق» التابعة للمجلس الأطلسي للشرق الأوسط ومقره المركزي في واشنطن، بالتفاعل والانكشاف إعلامياً منذ عدة أشهر. غير أنَّ ما قيل ونشر حولها ظلَّ في حدود التداول المحدود بين النشطاء والكتاب الديموقراطيين واليساريين العراقيين المناهضين للاحتلال ونظام المحاصصة الطائفية القائم.
ولأن هؤلاء الكتاب والنشطاء قلّة ذات جهود فردية مشتتة ومعتّم عليها ومحاصرة إعلامياً وسياسياً، وتفتقد إلى وسيلة إعلامية فعالة تخصها، فلم تبدأ هذه القضية بالتحول إلى التداول واسع النطاق، وتتخذ شكل قضية رأي عام إلا منذ فترة قريبة؛ وتحديداً حين أثار وزير النقل العراقي الأسبق السيد عامر عبد الرزاق موضوع فتح الطريق الدولي البري والأنبوب النفطي الرابط بين العراق والأردن.
حدث ذلك في خضم الجدل الذي أثاره موضوع إعادة تأهيل المنافذ الحدودية بين البلدين بعد الانتصارات التي حققتها القوات العراقية النظامية في محافظتي الأنبار ونينوى. ثم جاء قرار حكومة بغداد بوضع تلك المنافذ والطرق التي تؤدي إليها والتي توصف عادة بالبقرة الحلوب، تحت إدارة وحماية شركات أمنية أميركية خاصة. إحدى هذه الشركات، وهي شركة «بلاك ووتر» الأميركية ومقرها في ولاية كارولينا الشمالية، المتورطة بارتكاب مجزرة «ساحة النسور» في أيلول 2007 ببغداد والتي راح ضحيتها 40 مواطناً مدنياً أعزل بين قتيل وجريح. وقد اضطر مجلس النواب العراقي لإصدار توصية للحكومة بطرد الشركة من العراق، تحت الضغط الشعبي، وبعد تجريم أربعة من منتسبيها الذين شاركوا في إطلاق النار وقتل العراقيين من قبل القضاء الأميركي لا القضاء العراقي، فهذه الشركات محصّنة قضائياً بموجب قرار الحاكم المدني الأميركي بول بريمر بموجب القرار رقم 17 لعام 2004.
الفضيحة الجديدة التي كُشِفَ النقاب عنها قبل أسابيع قليلة تقول إن مسؤولية حماية الطريق الدولي بين العراق والأردن والبالغ طوله أكثر من 400 كلم، قد انيطت بشركة القتل ذاتها «بلاك ووتر»، ولكن ذلك تم كما يبدو بعد عملية تحايل قانونية، حيث تم توقيع العقد مع إدارة فرع الشركة في دولة الإمارات العربية والذي أطلقوا عليه اسم «شركة الزيتونة لخدمات الأمن» وبمباركة جاريد كوشنر صهر الرئيس ترامب، الذي كان حاضراً في حفل توقيع الاتفاق خلال زيارته لبغداد. ومع عودة الكلام عن مشروع أنبوب النفط الرابط بين الحقول العراقية وميناء العقبة الأردني، وتفعيل الاتفاق العراق الأردني السابق بهذا الخصوص، وحدوث تطورات أمنية واقتصادية أخرى، طرحت قضية «مجموعة السفير كروكر» وتقاريرها وتوصياتها التي كشف النقاب بالأدلة عن أنها تشكل جهازاً للتخطيط وصياغة التوصيات والأوامر بالتنفيذ لجميع هذه المشاريع والخطط في العراق، وبهذا تكون الحكومة العراقية وسيلة تنفيذية لا أكثر ولا أقل.
وكان الوزير عبد الرزاق أول من كشف عن الموضوع في وسائل الإعلام واسعة الانتشار وأثبت بالأدلة والإحصائيات أن هذه المشاريع كلها ليست في مصلحة العراق، بل هي في مصلحة واشنطن وحلفائها الإقليميين، وأنها خطط ومشاريع تلحق أشد الضرر بالاقتصاد العراقي وتدمر استقلاليته المطموح إليها، كما كشف عن أنها تطبيق عملي لتوصيات مكتوبة وردت في تقارير مجموعة كروكر. وكان الوزير جاداً كل الجد حين نصح كل مواطن عراقي بقراءة هذه التقارير عشر مرات ليتعرف على حقيقتها وخطورتها!
كان لتصريحات الوزير عبد الرزاق التلفزيونية، التي انتشرت على شكل تسجيل فيديو على مواقع التواصل والصحافة الرقمية لاحقاً، تأثير كبير. وأصبحت «مجموعة السفير كروكر» موضوعاً للجدل والنقاش والتساؤلات هذه الأيام، فهذه المجموعة، كما كشف الوزير العراقي، وكما أكدت تقاريرها المترجمة إلى العربية والمنشورة على مواقع «الإعلام الاجتماعي»، هي التي أوصت وقررت ــ مثلاً ــ وجوب أن يُصدِّر العراق ويستورد بضائعه ونفطه عن طريق الأردن لفائدة الأردن واقتصاده (لأنه حليف استراتيجي لنا)، و«لنا» هذه تعود على الولايات المتحدة الأميركية، وبالضرورة والسياق على حلفائها ومنهم إسرائيل المطلّة على ميناء العقبة الأردني الذي يراد تصدير البضائع والنفط العراقي عبره.
إن «مجموعة عمل مستقبل العراق» هي أقرب إلى الجهاز أو المنظمة السياسية والمعلوماتية الأكاديمية للدراسات والتخطيط الاستراتيجي. يرأسها السفير الأميركي السابق في العراق وأفغانستان ريان كروكر، وتضم في عضويتها سفراء وجنرالات أميركيين سابقين من بينهم اللواء المتقاعد مايكل باربيرو، نائب رئيس الأركان السابق لقوات الاحتلال الأميركية، إلى جانب الرائد في البحرية بن كونابل، وكتاب وخبراء أجانب من بينهم توبي دودج وعراقيين من بينهم الكاتب اليساري السابق فالح عبد الجبار الذي عرف بعلاقته المتميزة بالسياسي الشيعي الراحل، المثير للجدل أحمد الجلبي، مؤسس أول كيان سياسي طائفي علني في عراق ما بعد الاحتلال هو «البيت السياسي الشيعي»، ونبراس الكاظمي أحد كوادر حزب المؤتمر الوطني بزعامة الجلبي والمستشار السابق لشؤون اجتثاث البعث في عهد الحاكم الأميركي للعراق بول بريمر، وسجاد جياد المدير الإداري لـ«مركز البيان للتخطيط والدراسات» ومقره بغداد، وهو مركز غير معروف كثيراً، إضافة إلى أسماء معروفة أخرى من بينها (ليث كبه، كنعان مكية، وخبير صناعة الإرهاب الأول في العالم، السفير السابق في العراق، جون نيجروبونتي، ومدير السي آي أي السابق والقائد العام السابق للقوات متعددة الجنسيات بالعراق، ديفيد بيترايوس، ورند الرحيم. وهي جميعاً شخصيات كرست نفسها لخدمة احتلال كان يحطم البلاد، ويحتفظ لها العراقي بذكريات مرة وشديدة العدائية، ويبدو أنهم عادوا لإكمال ما نسوا تحطيمه من البلد/ سلسلة مقالات حول المجموعة بقلم الزميل صائب خليل). وأسماء أخرى تجدونها تفصيلاً في تقارير المجموعة «1».

يرأس المجموعة السفير السابق ريان كروكر وتضم سفراء وجنرالات أميركيين سابقين


رسمياً، تعرَّف المجموعة بأنها مجموعة دراسات أطلقها «مركز رفيق الحريري التابع للمجلس الأطلسي للشرق الأوسط»، والظاهر أن اسم رفيق الحريري أطلق على فرع الشرق الأوسط لهذا المجلس بسبب (الهبة الممنوحة من قبل بهاء الحريري نجل رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري فضلاً عن دعم أسرة الحريري)، كما يقول أحد تقارير المجموعة. أما هدفها المعلن فهو (تحديد سبل دعم العراقيين في سعيهم لتحقيق استقرار دولتهم، والتوفيق بين المجموعات العراقية المتنازعة، وبناء الأساس اللازم لتحقيق استقرار طويل المدى في البلاد). تقوم هذه المجموعة بتشيكل لجان لتقصي الحقائق تعمل داخل محافظات العراق وقام بعضها فعلاً بأعمال في إقليم كردستان ومحافظة بغداد ومحافظة النجف. كما تقوم المجموعة (باستشارة مجموعة من صانعي السياسات الأوربيين في برلين). ثم تعلن عن النتائج التي توصلت إليها وكانت آخر مرة قد أعلنت النتائج فيها قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة التي فاز فيها دونالد ترامب. هذه النتائج كما تقول المجموعة في تقريرها (ستكون عبارة عن مجموعة من التوصيات، التي سيتم تقديمها للإدارة الأميركية الجديدة، وذلك من أجل المساهمة في صياغة طريقة للتعامل مع قضية الاستقرار في العراق على المدى الطويل). ولكي لا تكون لدى القارئ أية أوهام «ديموقراطية» حول عمل هذه المجموعة المخابراتية السياسية الاستراتيجية نجد أن أهم توصية توصلت إليها وقدمتها إلى إدارة ترامب هي ضرورة الإبقاء على مهمة تدريب القوات العراقية الحكومية بيد القوات الأميركية التي يجب أن يبقى منها في العراق (عدد مناسب بعد تحرير الموصل والاضطلاع بمهمة طويلة الأمد/ تقرير نشرته فضائية الميادين). نلاحظ هنا أن عبارة «مهمة طويلة الأمد» وردت نكرة وقد تعني أية مهمة احتلالية عاجلة، فهل هذه مجموعة دراسات علمية أم جهة قيادة وتخطيط وإصدار توصيات في خدمة واشنطن وتل أبيب والحلف الأطلسي؟
يلخص الكاتب العراقي صائب خليل أهداف المجموعة الحقيقية ومن خلال قراءة معمقة لوثائقها بتسعة أهداف هي:
1-تجزئة السلطة في العراق إلى أصغر الأجزاء الممكنة لتحطيمه.
2-استعجال تثبيت أقرب «أصدقائهم» وأكثرهم استعداداً للعمل، في مراكز قيادية قبل سقوط داعش.
3 ربط العراق واقتصاده بتوابعهم في المنطقة وجعل ثرواته في خدمتهم.
4-فصل العراق عن جيرانه المستقلين عن التأثير الإسرائيلي والأميركي المباشر.
5-السيطرة على النفط العراقي واستخدامه لدعم إسرائيل وتوابعها مثل الأردن.
6-تحويل الاقتصاد العراقي إلى الخصخصة واقتصاد السوق وفرض تمايز طبقي أشد.
7-استعمال العراق كهراوة لضرب إيران وسوريا وأية دولة تخرج عن طوعهم مستقبلا.
6-تثبيت الاستيلاء النهائي على القرار السياسي العراقي.
9-إبقاء القوات العسكرية الأمريكية في العراق إلى أمد غير محدود.
وعلى الصعيد العملي تلجأ مجموعة كروكر إلى أشد الأساليب الديماغوجية فظاظة وكذباً في تزوير قناعات وإرادة الرأي العراقي العام، وفبركة إحصائيات ودراسات ميدانية زائفة لتخرج منها بالأكذوبة التي تقول (وقد أعربت الغالبية العظمى من العراقيين الذين أشركتهم مجموعة العمل عن رغبتهم في استمرار الوجود العسكري والدبلوماسي الأمريكي في العراق)! في حين كانت إحصائيات أخرى أكثر مهنية أجريت قبل عدة سنوات تفيد بأن أكثر من 85% يريدون خروج القوات الأميركية المحتلة فوراً ودون قيد أو شرط، علماً أن هذا الواقع كان قبل فضائح أميركا.
ومن النجاحات التي تحسب لمجموعة كروكر دفعها الحكومة العراقية إلى اتخاذ تدابير واقتراح مشاريع قوانين جديدة الهدف منها خفض رواتب ومعاشات المتقاعدين وغير المتقاعدين قبل أيام قليلة فقد لام تقرير المجموعة وانتقد «صندوق النقد الدولي» لأنه كان متساهلاً مع الحكومة العراقية ولم يفرض شروطاً كافية حتى الآن في ما يتعلق بهذا الخصوص. والأنكى من ذلك هو أن الهدف من تخفيض رواتب المتقاعدين من موظفي وعمال القطاع العام - كما يستنتج الزميل خليل - هو تحويل المبالغ المستقطعة إلى متقاعدي القطاع الخاص والهدف من ذلك واضح كل الوضوح وهو تدمير ما تبقى من القطاع العام وتمهيد السبيل لسيادة القطاع الخاص والذي تهيمن عليه أصلاً الأحزاب والقوى السياسية النافذة في الحكم.
أما في حقل الصناعة النفطية العراقية، فتقارير مجموعة كروكر تذهب إلى هدفها الحقيقي مباشرة دون لف أو دوران، وتأمر حكومة بغداد بضرورة «إعادة التفاوض بشأن العقود مع شركات النفط». ملوحة بإغراء براق ومزيف يقول إن الحكومة سوف «تستفيد» من «الابتعاد عن اتفاقاتها مع الخدمات التقنية». إن المقصود بهذه العبارة هو أن تتخلى الحكومة العراقية عن استراتيجيتها الصحيحة والتي تم تثبيتها بجهود الكوادر النفطية الوطنية القائمة على «عقود الخدمات» ورفض الخيار الآخر المتمثل «بعقود الإنتاج»، الذي يعني أن تكون الشركات الأجنبية المتعددة الجنسية شريكاً فعلياً في الإنتاج والأرباح، لا مجرد شركات تقدم الخدمات والخبرات مقابل أثمان معلنة. إن هذا المطلب يعني أن مجموعة كروكر تريد قلب الوضع القائم لكي تحصل الشركات الأجنبية على أرباح مضاعفة تصل إلى أربعة أضعاف ما تحصل عليه بموجب عقود الخدمة، أي كما هي الحال مع الشركات العاملة في إقليم كردستان العراق والتي تعمل بموجب عقود المشاركة في الإنتاج دون موافقة الحكومة العراقية الاتحادية. وبهذا ستكون تلك الشركات والاحتكارات النفطية الأجنبية شريكاً في ما لا يمكن المشاركة فيه لأنه ينتقص من السيادة العراقية.
إن التبرير الذي يطرحه تقرير مجموعة كروكر لهذه التوصيات هو أنها ستكون «لمصلحة العراق»، ولأن عقود الخدمة (تفرض رسوماً مرتفعة للبرميل على الحكومة في الوقت الذي تكون فيه أسعار النفط منخفضة، مما يؤدي الى تقليل تحفيز الاستثمارات الفعالة من حيث التكلفة في البنية التحتية من جانب شركات النفط) وفي مناقشته لهذا التبرير يكتب صائب خليل (في هذا الكلام، حقيقة صغيرة أخرجت من سياقها لإمرار أكذوبة كبيرة. الحقيقة الصغيرة هي أن عقود الخدمة تنخفض أفضليتها تدريجياً مع انخفاض سعر النفط بالفعل. أما الكذبة الكبيرة التي يتجنب التقرير الحديث عنها فهي أن أفضلية «عقود الخدمة» تبقى أعلى، حتى في أدنى الأسعار التي وصل اليها النفط مؤخراً من «عقود الإنتاج»، وأن سعر البرميل يجب أن يهبط إلى أقل من عشرة أو ثمانية دولارات للبرميل الواحد، قبل أن يتساوى مردود النوعين من العقود بالنسبة إلى العراق، حسب تقدير الخبير النفطي العراقي فؤاد الأمير!).
وبعد كل ما تقدم، هل يمكن وصف هذه المجموعة والمجلس الأطلسي الذي يقف وراءها بأنها كما تعرف نفسها (مؤسسة حيادية مرموقة لا تتبع أي حزب، وتكرس جهودها لدفع التعاون عبر الأطلسي والسلام الدولي)؟ وإذا كان طبيعياً أن ينضم إليها ويعمل في صفوفها سفراء وجنرالات وموظفو مخابرات وخبراء اقتصاد أميركيون وأجانب فهل يستقيم ويكون خالياً من الشبهة والتشكيك أن ينضم إليها ويعمل في صفوفها كتاب وخبراء عراقيون، وخصوصاً ممن وصفوا أنفسهم ذات يوم بأنهم وطنيون وديموقراطيون أو يساريون يناهضون الرأسمالية والاستعمار والغزو والهيمنة على شعوب الشرق عموماً والعراق وشعبه على جهة التعيين؟
بكلمات أخرى: هل يمكن اعتبار هذه المجموعة جهة علمية وأكاديمية تصدر الدراسات المحايدة والمفيدة لمن يريد الاستفادة منها كما يفترض بسائر الجهات الأكاديمية والعلمية المستقلة أم أنها في حقيقتها جهاز أميركي للقيادة والتخطيط والتجسس وإصدار التوصيات والأوامر التنفيذية والتي تتعامل مع قمة السلطة في واشنطن ولا تتعامل مع الطرف العراقي وهو المعني أكثر من غيره بنشاطها وتوصياتها كما يقتضي الزعم بالعلمية والاستقلالية؟
*كاتب عراقي