أن يُفرَز لزوّار بيونغ يانغ مرافق يلازمهم في تحرّكاتهم خارج الفندق، أمرٌ بات معلوماً لدى كلّ من يريد زيارة جمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية، وإن كان الزائر صحافياً، فالمرافقة تبدو أمراً محتّماً. مرافق البعثة اللبنانية في بيونغ يانغ اسمه سِن، انضمّ إليه مرافق آخر يعمل مترجماً لدى «الاتحاد الآسيوي لكرة القدم» يدعى ري. سِن وري شابّان في العشرينيات من العمر، لم يصدر عنهما أي تصرّف قمعي، ولم يُشعرانا بسطوة رقابية أو تكبيل في الحركة، بل على العكس سهّلا زيارتنا في أكثر من محطة.
سِن مثلاً، نظّم لنا زيارات سياحية لبرج زوتشي وساحة كيم إيل سونغ، ولأكبر ملعب رياضي في العالم. أما ري، المترجم، فحادثني في السياسة و«النووي» وأمور الحياة وأحوال لبنان والمنطقة! «هل سمعتِ الأخبار اليوم؟ ما رأيك في ما جرى؟» بادر ري بسؤالي في اليوم التالي لتنفيذ كوريا اختباراً لقنبلة هيدروجينية، وكنت قد تابعت الخبر على التلفزيون من غرفتي في الفندق، المزوّد بمحطات صينية ويابانية و«فرانس 24» و«الجزيرة الإنكليزية» و«روسيا اليوم». أجبت: «لا أحبّ فكرة القنبلة النووية، وهي ترعبني، لكنكم بهذا تقولون للعالم إنكم أقوياء أيضاً». ابتسم وقال: «لا تخافي لن نلقي القنبلة على بلادكم، هي فقط لتحقيق سلام بلادنا» شرح الشاب الذي يتكلّم الإنكليزية جيداً، ويقول بفخر إنه تعلّمها في معهد بيونغ يانغ للّغات.

«من حقّنا أن نحمي أمن بلادنا وشعبنا» يشرح نظرته لامتلاك السلاح النووي، متسائلاً: «كيف يجب أن نتصرّف مثلاً تجاه تنفيذ الولايات المتحدة الأميركية وكوريا الجنوبية مناورات عسكرية على حدودنا؟ لماذا لا يحقّ لنا مواجهة تهديداتهم الدائمة؟»، يصفن ري لبرهة ويردف قائلاً: «ماذا يريدون منّا؟ أن نستسلم ونذعن لعقوباتهم؟».
في إحدى المرّات، دعاني ري بلباقة إلى تذوّق الجعة الكورية التي تصنّع محلّياً من الأرز الأبيض، اسمها «تاي دونغ». جلسنا في بهو الفندق أكثر من مرّة، وتابعنا النقاش في أمور متنوّعة. دُهش الشاب الكوري حين أخبرته أن جنوب لبنان كان تحت الاحتلال الإسرائيلي لسنوات، وأبدى إعجابه بالمقاومة الشعبية والمسلّحة التي أخرجت العدو الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية، «المقاومة والوطنية من أهمّ ما تعلّمت في الحياة» علّق ري. الشاب الكوري يحلم بزيارة بعض عواصم العالم التي يسمع عنها من خلال مرافقته للسياح فقط. تغيّرت ملامح وجهه إيجاباً حين أخبرته أن في لبنان مَن يرى إسرائيل والولايات المتحدة عدوّتين، وأنني مثله أيضاً، أكره الإمبريالية الأميركية. «علمتُ بالأمس أن أميركا ألقت قنبلة في سوريا وقتلت مدنيين كثراً وذلك أحزن قلبي»، قال بجدّية وصدق.
ري صُدم عندما علم أننا في لبنان مضطرّون إلى دفع مبالغ طائلة مقابل الطبابة والتعليم وممارسة الرياضة، بينما هي كلّها مجانية في بلاده.

على التلفزيون
في الفندق:
«فرانس 24»، «الجزيرة»، «روسيا اليوم»
لازمني ري في ملعب «كيم إيل سونغ» خلال المباراة الكورية ـ اللبنانية الممتعة. شجّع فريق بلاده بحماسة ومازحني لكوني الشخص الوحيد بين ٢٩ ألف متفرّج الذي يشجّع الفريق اللبناني على المدرّجات، ثم طمأن قائلاً: «لن يضايقك أحد، فالناس هنا ودودون». عمل جاهداً لإقناع المنظمين بالسماح لي بالتقاط صور من أرض الملعب، لكوني لستُ مصوّرة صحافية معتمدة، ونجح في ذلك، وتمكّنت بفضله من التقاط صور للفريق اللبناني والمباراة. في الاستراحة بين الشوطين، كان الحديث عن الله والإيمان، اتفقنا على أن الإيمان بالقدرات الذاتية للفرد مهمّ جداً.
رافقَنا إلى المطار مودّعاً وصافح بعض أعضاء الفريق بكلّ مودّة، «لستم وحدكم» قلتُ له أخيراً، «فنحن معكم ونفهم معاناتكم لأننا عشنا الحروب واختبرنا ولايتها»، خفَض ري عينيه وقال: «شكراً لكم».
كان ري قد أخبرني في حديث سابق أنه يستمع إلى الموسيقى الكورية والروسية، لأن «الموسيقى تشعره بالهدوء والطمأنينة» بعد دوام عمل طويل وشاقّ كمترجم، فلم أجد أفضل من ألبوم «إلى عاصي» (فيروز ـ زياد الرحباني) لأتركه له كهدية، علّه يحتفظ بأجمل صورة وأرقاها عن لبنان.